الصياد واليربوع
م. محمد حسن فقيه
من عجيب القصص وغريب القدر، ما سمعته عن رجلٍ معمِّرٍ عجوزٍ يحكي واحدة من غرائب المواقف التي مرّت عليه في سنوات حياته الطويلة الماضية .
يقول المعمر العجوز:
- عدت ذلك اليوم من الصيد خالي الوفاض مغتمّاً، إذ إني لم أحظ بعادٍ ولا طائر - على غير العادة - فلم أصطد أرنباً أو غزالاً ولا يمامة أو زرزوراً، فأسندت ظهري إلى جذع شجرة أتفيأ ظلّالها بعد أن افترشت الأرض متربعاً لأرتاح قليلاً وأرقب ما حولي، فلفت نظري يربوع خرج من جحره بحذرٍ شديدٍ ليبحث عن صيدٍ يتبلغ به، كان يجري مسرعاً ثم يتوقف قليلاً كأنه يصيخ السمع، ويتلفت حوله يمنة ويسرة حذراً من عدو قد يهاجمه، وإذا ثعبانٍ ضخمٍ يخرج من بين الأعشاب وينقضّ عليه بحركة خاطفة ليصبح اليربوع بين فكيه، فلم ينفع اليربوع حرص ولا نباهة إذ جاءه المقدور، ولم ينجه التفات ولا حذر، فتسمّرت في مكاني أراقب الحدث بصمت، وأتابع ابتلاع الثعبان لذلك اليربوع الضعيف الذي ساقه حظّه العاثر ليكون وليمةً شهيةً له، بدأ الثعبان في ابتلاع اليربوع وأنا أسمع صرير اليربوع و"زقزقته" وهو بين فكي الثعبان حتى ابتلعه وخمد صوته ...
استمررت أتابع حركة ابتلاع الثعبان لذلك اليربوع الصغير، واعتصار عضلات الثعبان لتدفع بذلك اليربوع إلى جوفه بحركات بطيئة متموجة، وحركة اليربوع تضعف شيئاً فشيئاً داخل جسم الثعبان، حتى وصل اليربوع إلى وسط الثعبان وتوقفت حركة عضلاته المتموجة عن دفعه، وثقلت حركة الثعبان وكأنه أخلد إلى الأرض لينال قسطاً من الراحة بعد ذلك المجهود الكبير، دققت أكثرفي مراقبة حركة اليربوع داخل جوف الثعبان، فلم تكن أكثر من نبضات واختلاجات ضعيفة وبطيئة تكاد لا تبين لي، فخطر لي أن أنتقم لهذا اليربوع الصغيروأخرجه من بطن ذلك الثعبان الذي ابتلعه، ثم هجمت الفكرة عليّ بقوة تنطح رأسي ، بعد أن رأيت الثعبان وقد توقفت حركته تماماً حتى بدا كأنه يغط في نوم عميق .
أمسكت بندقيتي وصوبتها اتجاه رأس الثعبان وأطلقت عليه، فطار رأسه وبعض من جسده قطعاً صغيرةً تناثرت على الأرض، تقدمت نحوه وأخرجت من جعبتي سكيناً، فمزقت بطن الثعبان وأخرجت اليربوع من جوفه وألقيت به على الأرض .
كان كتلة لزجة ليّنة إلا أن اختلاجاته كانت واضحة وإن كانت ضعيفة، ثم بدأ اليربوع يحاول الحركة والانقلاب من جنبه إلى بطنه، حتى إذا أفلح بعد قليلٍ، بدأ يجاهد نفسه محاولاً الزحف إلى الأمام وهو ينقلب حيناً على جنبه الأيمن وأخرى على جنبه الأيسر، فيعدّل وضعه بجهد ومشقة، ثم يعاود محاولة تحركه وأنا أرقبه من تحت شجرتي التي عدت إليها بعد أن أخرجته من بطن الثعبان ووضعته تحت أشعة الشمس .
بدأت حركة اليربوع تتقدم ونشاطه يبدو واضحاً، وشعرت بسعادة تغمرني بأني كنت سبباً في إنقاذ هذا اليربوع المسكين، ناسياً أني قتلت مخلوقاً حياً أكبر منه بعشرات المرات حتى أنقذه !
حتى إذا استعاد اليربوع بعضاً من حركته وابتعد عني قليلاً،
انقضّ عليه نسر بسرعة البرق وهو يصفر بحدة، فاختطفه بمخالبه بعد أن غرزها عميقاً في
ظهره وطار به بعيداً .
مشهد غريب يدعو إلى التفكر والتمعن في خلق الله وأقداره .
لم تسنح لي حركة النسر الخاطفة وفجأة الموقف أن أجهّز بندقيتي وأطلق النارعليه كما أطلقت على الثعبان، وأنا أتابع غارة النسر وانقضاضته السريعة، وقد أنشب أظافره في جسد اليربوع وطار به، قبل أن يبتعد عني ويختفي عن ناظري .
جلست أسترجع ما حدث وأتأمل ذلك المشهد الغريب .
اليربوع خرج يبحث عن صيد، فكان هو صيدأً للثعبان .
الثعبان ظنّ نفسه أنه قد فاز بالصيد وحاز على الطعام، فإذا هو يصبح صيداً لي، وينجو اليربوع حتى بعد أن ابتلعه الثعبان !
اليربوع عادت إليه الحياة وظن أنه نجا، وذهب يبحث عن مكان يستعيد فيه عافيته، فإذا بالنسر ينقض عليه ويختطفه .
النسر ترك الثعبان الممزق بحجم اليربوع عشرات المرات وانقضّ على اليربوع الصغير.
أنقذت اليربوع من جوف الثعبان، لكني لم أتمكن من إنقاذه مرة أخرى من بين مخالب النسر .
هززت رأسي : إن الله سخر هذه المخلوقات بعضها لبعض فعلام أحشر نفسي في ذلك، وقد جاء القدرالمحتوم بنهاية اليربوع .
ظننت بداية أن نهايته ستكون بين فكي الثعبان، فلمّا أنقذته من داخل جوفه ظننت أن حياة جديدة قد كتبت له بسببي، لكن حقيقةً كان قدره الحقيقي وساعة أجله قد حانت، ولكن على مخالب النسر بعد دقائق ...
أجل اليربوع انتهى، فلا تتعب نفسك فيما ساقه الله من رزقٍ للأفعى أو للنسر .
ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ... ولكل أجلٍ كتاب .
طاف يبغي جولة ً*** من هلاكٍ فهلك .
كل شيء قاتلٌ ***
حين تلقى أجلك .
نهضت وأنا أنفض يديّ وثيابي من التراب لأعود إلى المنزل خالي الوفاض من صيد في هذا اليوم، ولكنّ إيماناً استقرّ في أعماق قلبي أنّ هذا قدري ولن أعدوه، فانطلقت متوجهاً إلى البيت مرتاح البال مطمئن النفس راضياً بقسمة الله لي، وأشد إيماناً بقضائه وقدره .