حمرا
ربيع عرابي
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق (أحمد شوقي)
نهرت الجدة حفيدها عاتبة عليه ... فقد استيقظ متأخرا ... وماطل في شرب كوب الحليب كعادته في كل صباح ... وأضاع الكثير من الوقت في الطريق وهو يقفز ويلعب ملوحا برأسه لأترابه وأصدقائه العابرين ... وهاهم يجنون ثمرة ذلك وقوفا في آخر الطابور الطويل ... وقد سبقهم عشرات المراجعين ... الذين أخذوا أماكنهم بُعَيْدَ الفجر مع صياح الديك.
كان الوقت ينقل خطوه ببطء شديد ... بينما تتسلق الشمس رويدا رويدا قبة السماء الزرقاء مرسلة بأشعتها الرقيقة الناعمة ... فتلامس برفق أوراق الشجر وبتلات الورود المبللة بندى الصباح.
قلت لك تعجَّل ... ألا ترى كيف أضعنا الكثير من الوقت بتهاونك ... وعلينا الوقوف والإنتظار طويلا الآن بسبب كسلك وطيشك.
نظرت إليها إحدى الشابات الواقفات بلطف وربتت على كتفها بحنان :
هدئي غضبك أيتها الجدة الحبيبة ... لن يستغرق الأمر وقتا طويلا ... فالأمور اليوم تسير بسرعة ويسر منذ أن زال عنا ذلك الكابوس اللعين ... تذرعي قليلا بالصبر ... وستحصلين على شهادة حمرا بعد هنيهة قصيرة ... وإن شئت خذي مكاني فأنا أكثر منك جلدا وصبرا على الوقوف.
شكرتها الجدة بابتسامة رقيقة معتذرة عن قبول عرضها السخي ... مفضلة الوقوف صابرة في انتظار دورها ... ممسكة بيد حفيدها الصغير الذي كان يحاول جاهدا التفلت والهرب من قبضتها ... ليجري خلف الفراشات الحلوة التي كانت تملأ المكان.
سرعان ما تسلل الفضول إلى صدر الحفيد الصغير فسارع إلى سؤال جدته بدهشة واستغراب :
جدتي ... جدتي ... ماالذي أتى بنا إلى هنا؟ ... وما الذي يفعله كل هؤلاء الواقفين المنتظرين؟ ... فأنا لا أرى طعاما ولا دواء ولا لعبا ... فلماذا أتينا إذن؟ ... ولماذا أتى أيضا كل هؤلاء؟
كسى الحزن وجه الجدة المتجعد ... وفرت دمعة من عينها تلقفتها بطرف يدها ... لترسم بسمة حزينة على شفتيها ... وهي تهمس في أذن حفيدها :
الأمر ليس كما تظن يا ولدي ... فنحن هنا لإجراء الفحص الطبي ... وعلينا استخراج شهادة طبية ... وثيقة مصدقة من الأطباء ... ألا تفهم ... إنها شهادة حمرا ... وهي هامة ولازمة ومطلوبة أينما ذهبت وأنَّى حللت ... عليك حملها في الحقل والبيت وفي كل مكان تمر فيه.
زاد فضول الصغير أضعافا مضاعفة ... و تزاحمت الأسئلة في عقله الصغير ... فهو لم يفهم من جدته الكثير مما قالته ... شهادة حمرا!!! ... ترى مانوع هذه الشهادة؟ ... وأيَّ شئ تكون؟ ... ولِمَ هي حمراء ... لِمَ لا تكون بيضاء أو صفراء أو خضراء أو حتى بنفسجية بلون تلك الزهور؟ ... لِمَ هي حمراء بالذات؟.
جدتي ... جدتي : شهادة حمرا يعني لونها أحمر؟
لا
إذن فهي ممهورة بختم أحمر.
لا
لا بد أن عليها صورة حمراء.
لا
فهي مكتوبة بالحبر الأحمر.
قلت لك لا ... وكف عن اللغو والسؤال فقد حان دورنا.
وحين ألح الحفيد على معرفة سر الشهادة الحمرا تلقى وعدا جازما من جدته أن تحكي له الحكاية كاملة هذا المساء عند الذهاب للنوم.
تحلق الصغار حول جدتهم العجوز ... بعد أن اختبأ آخر شعاع من أشعة الشمس خلف الأفق البعيد ... وهدأ صخب وضجيج النهار الطويل ... فلم يعد يُسمع إلا صوت حراس الليل وحفيف أوراق الشجر ... وبدأت الجدة تحكي حكايتها المنتظرة ... كانت الدموع تغسل وجنيتها فتتلألأ ابتسامتها الرقيقة ... فكأنها حبات لؤلؤ على صفحة قمر مشرق ... قالت الجدة ضاحكة باكية :
لا زلت أذكر ذلك اليوم ... كان يوما من أيام الخريف ... وقد امتلأت السبل بأوراق الشجر اليابسة ... وبدأت الغيوم تعكر صفو السماء الزرقاء وتحجب شمس الصيف الساطعة ... وتجوب أجنادُها جنبات السماء مستعرضة قواها ... منذرة بالعاصفة العاتية القادمة عما قريب ... وكان تماوج العشب اليابس وشقوق الأرض العطشى من حر الصيف تنبئ بمجهول قادم من بعيد.
امتلأت الأرجاء بالجلبة والصياح ... كان الضجيج قويا عاليا مكفهرا ... تعلو وتيرته شيئا فشيئا ويزداد صخبه آنا بعد آن ... وكانت الجموع تجري هاربة في كل حدب وصوب ... وكأنها حُمُرٌ مستنفرة فرَّت من قَسْوَرَة* ... يومها خرج أبوك مسرعا يتلقف الهاربين ... ويحاول سؤال المارة والعابرين عن حقيقة الأمر ... وعن سبب الذعر والخوف الذي ملأ قلوب هؤلاء الفارين الراكضين ... لكنه لم يعثر على إجابة شافية ... ولم يعد إلا بعبارات قليلة سريعة لاهثة :
لقد وصل ... إنه قَرْقُوْر ... وصل ... ذو القوة قَرْقُووور ... قد وصل.
لم يفهم أحد منا شيئا ...فمن ذاك الذي وصل؟ ... ولِمَ يخاف الجميع من وصوله؟ ... ومن هو قَرقُورُ هذا؟ ... وما هذا الإسم الغريب العجيب الذي لم نسمع به من قبل؟ ... هل هو مهاجر قديم عائد إلى بلاده بعد طول غياب؟ ... أم سائح زائر جاء ليُقَلِّبَ الطَّرْفَ في أنهارنا وسهولنا ... ويُجِيلَ البصر في بساتيننا وحقولنا ... أم عابر سبيل ساقه قدره ليحل ضيفا كريما علينا.
جلسنا جميعا في عتمة الليل ... بعد أن غاب الهلال واحتل الظلام أركان السماء ... أنا وجدك ووالداك وإخوتك الكبار ... جلسنا جميعا نتبادل التعليلات والتفسيرات والتأويلات ... ونقلب الأفكار والآراء ... ونضرب الأخماس بالأسداس ... دون أن نصل إلى رأي واضح جلي يروي ظمأنا ويشفي صدورنا.
مرت الأيام ثقيلة الخطى ... والقلق والترقب والغموض سيد الموقف ... وأحاديث غامضة تدور هنا وهناك ... وعبارات هامسة تخرج من أفواه قائليها لتصب في آذان مستمعيها مباشرة ... خشية أن تسترق نسمةٌ لاهيةٌ عابثةٌ كلمةً أو عبارةً تائهة ... فتجلب للقائل والمستمع معا ما لايشتهياه من المصائب والمحن.
وقف قَرقُور ذو القوة في الساحة الكبرى ... وقد لف وسطه بجريد النخل وأوراق الشجر ... مبشرا بلغة سوقية لكناء ... ونبرة غريبة يعجز الخبراء عن تمييزها وتبيان فصيلتها ... فلا هي بالنعيقِ ولا النهيقِ ولا النقيق ... وكان مما قاله يومذاك للسامعين ... أنه جِدُّ حزين لما وصلت إليه أحوالنا من تخلف وتأخر ... وما نحن فيه من بلادة وجمود.
ثم أرغى وأزبد وهدد وتوعد ... وهو يقول للحاضرين : أنه قَرقُورُ ذو القوة ... فهو القَدَرُ المَقْدُور ... الذي يمتلك القدرة والقوة ... وأنه الوحيد القادر على : التفكير والتقدير والتدبير والتغيير والتحرير والتحوير ... فلا فائدة ترجى من مخالفته ولا جدوى من مخاصمته ... فمن سار بركبه وتحت سلطانه فاز وجاز ... ومن خاصمه وحاربه ضل وخسر ... وهل يجدي خصام القدر ... وهل يفلح عدو ذي القوة!!!!
كان السَّبُعُ والضَّبُعُ والدُبُّ والذِئبُ والثَّعلبُ يحومون حول الواحة منذ زمن بعيد ... وحين وصل قَرقُورُ ذو القوة تظاهر بعضهم بالخشية منه والخوف من سطوته ... لكن الحكماء منا قالوا لنا بأنه اتفق معهم سرا على أن يعطيهم نصيبا وافرا من الثمار و الغلات ... لقاء أن يقدموا له الحماية والرعاية والأمان.
وهكذا حُمِّلَ صابرٌ الحمارُ أضعافَ قوته وطاقته حتى نَهَكه الهزال وأضناه الجوع ... وطُلِبَ من الدجاج أن يبيض ضعف قدرته ... وعُصِرَتْ ضروع الأبقار حتى لم يبق فيها قطرة تسد رمق عجولها الصغار ... وأُهْدِيَتِ الفواكه والثمار والحبوب والغلات للسَّبُعِ والضَّبُعِ والدُبِّ والذِئبِ والثَّعلبِ ... بعد أن ميَّز ذو القوة نفسَه بأفضلها وخيارها.
وتعهدت مجموعة من الحيات والثعابين قدمت من الصحراء المجاورة ... بأن تُجريَ السُمَّ الناقع في عروق كل من تسول له نفسه أو يجرؤ على مخالفة قَرقُور ... بينما أخذت الغِربانُ على عاتقها مراقبة المكان من علٍ ليتسنى لها نقل الأخبار وفضح الأسرار ... وطلبت الفئران والجرذان أن يكون لها شرف استراق السمع والتنصت على الجميع في كل مكان ... مقابل أن يسمح لها بنقب المخازن وسرقة الحبوب والزيوت والأجبان والأرزاق ... وأخيرا كُلِّفَ النَّسْرُ الجبان بتنظيف المكان ... و التهام الجثث والأشلاء كي تُخفى المعالم وتُمحى الآثار.
كان قَرقُورُ فوق ذلك كله ... سريع الخطوات ... رشيق الحركات ... يتنقل بسرعة ويسر بين الأغصان والأشجار ... فسرعان ما يباغتك في خلوتك دون أن تشعر ... ويظهر أمامك فجأة ودون مقدمات فلا يغنيك عُذْرٌ ولا حَذَر ... فاقتنع الكثير من حوله أنه عفريت من الجن أو ملك من الملائكة ... وأنه فعلا كما يقول ويكرر ويقرر : قَدَرٌ مَقْدُورٌ لا تنفع معه رقية ولا قول.
بسط الخوف والرعب ظله على أرجاء الواحة ... وكان كل يوم جديد يحمل معه جثثا مرمية على جنبات الطرق ... على محياها علائم الرعب وفي جسدها آثار أنياب الأفاعي ... وقد التهمت بعض أشلائها النسور.
يبست كثير من الأشجار بعد أن شحت الأمطار ... وغدا الجدول الدَّفَّاقُ بالماء الزلال ساقية صغيرة منتنة ملأى بالأوساخ ... ونقبت الفئران المخازن دون اعتراض أو شكوى من أحد ... وسمنت وترهلت أجسامها حتى لم تعد قادرة على الحياة في جحورها القديمة.
وقرر قَرقُورُ في إحدى خطبه العرجاء الركيكة ... بعد الحديث الممل عن إنجازاته وأعماله الكوكبية الباهرة ... أنَّ الوقت قد حان لتفيير اسمه المتداول بين الجميع ليصبح بعد اليوم : ذو القوة ... قَرقُور ... والأفضل وهو ما تقرر فيما بعد : ذو القوة فقط ... وهل في الكون كله ذو قوة غيره!!!!
فرَّت الكثير من الغزلان والأرانب والطيور وهامت على وجهها بعيدا ... إلا أن الضعفاء منها وقعت في قبضة ذي القوة فأذاقها ألوان العذاب ... ومات كثير من جيراننا وأقربائنا لأتفه الأسباب ... ولدغ والدَك ثعبانٌ غادرٌ حين أشاح بوجهه وقد بانت عليه علائم القرف والسخرية لَمَّا ذكر ذو القوة أمامَه ... أما والدتَك الطاهرة فقد عقرتها عقربٌ سوداء سامة عندما كانت تهدهدك وأنت لا زلت رضيعا على صدرها ... لمَّا سمعتها تندندن بأغنية ساخرة من ذي القوة.
وضاع حساب الأيام والشهور والسنين ... فقد طال الليل وانقلبت الحياة إلى جحيم ... وكان علينا في كل يوم ... وفي كل صباح ... أن نقدم الأضحيات لمَلءِ بطون الوحوش من كل صنف ولون ... بينما نبيت نحن على الطوى جائعين ... ينتظر كل منا دوره الآتي عما قريب ... فربما كان هو الأضحية القادمة أو المشرد الجديد.
كان الشُحرور الصغير واقفا على أحد الأغصان ... يُدير بصره يمنة ويسرة ... علَّهُ يجد حبة قمح أو كسرة خبز يقيم بها أوده ويسد رمقه ... وقد مكنه حجمه الصغير من الإختفاء بين أوراق شجرة الصفصاف بعيدا عن أعين الغِربان وأنياب الثعابين ... حين سمع فجأة صوت أقدام تقترب متسللة إلى المكان ... توقفت الأقدام وساد صمت غريب ... خفق قلب الشحرور بقوة ... وارتعدت فرائصه من الخوف ... إلا أنه تمالك نفسه بصعوبة بالغة ... وظل كامنا بين الأغصان يراقب الأحداث.
صُعِقَ الشُحرور لهول ما رأى ... أراد أن يصرخ ويصيح ... لكنه كتم تغريدته في صدره ... وحشرجت الكلمات في حنجرته ... وهمس في أذن نفسه متقززا : إنها حمرا ... أجل إنها حمرا ... والله إنها حمرا ... يا خجلتي ... يا للعار ... إنه ذو القوة ... إنه قَرقُور ... ياللقرف ... حمرا ... قرقور ... إنه قر...
انتشر الخبر كالنار في الهشيم ... وأصبح حديث المجالس والسهرات ... وصدق الكثيرون شهادة الشحرور الصغير ... إلا أن البعض شكك بدقة روايته لصغر سنه... لكن الأرنب البري أكد شهادة الشحرور ... كما أقر الغزال أنه كان يعرف ذلك منذ زمن بعيد ... لكنه لم يجرؤ على البوح به من قبل ... أما اليمامة البيضاء الجميلة فقالت إنها خجلت من ذكر ذلك ... لأن تربيتها الدينية لا تسمح لها بوصف بعض الأشياء أو ذكرها ... لكنها اليوم مضطرة للقول بأنها فعلا شاهدت بقعة حمراء كبيرة ... كان ذو القوة يغطيها على الدوام بجريد النخل وأوراق الشجر.
استشاط ذو القوة غضبا للأخبار التي نقلتها إليه الغربان والفئران ... وعوقبت مجموعة من فراخ البط بشدة وقسوة ... لأنها لونت ريشها باللون الأحمر ... مما اعتبر تحديا سافرا وسخرية من ذي القوة ... وقامت الفئران باقتلاع جميع حبات الشوندر من الأرض ... وأتلفتها بعيدا ... حتى لا يؤذي لونها الأحمر مشاعر ذي القوة الرقيقة ... وعثر بعد حين على أشلاء الشحرور الصغير ممزقة وقد قطع رأسه ونتف ريشه ... واختفت اليمامة البيضاء فقد اختطفتها الغربان كما أشيع وقيل ... وهرب الغزال والأرنب بعيدا عن العيون.
لكن شمس الربيع أشرقت ... ومع أشعتها الدافئة الأولى ... خرجت مجموعة من الفراشات الجميلة من شرانقها ... ورفرفت بأجنحتها الحمراء الزاهية فوق السهول والوديان ... ونفش طاووس جليل وقور ذيله المبرقش مستبدلا لونه الأزرق الملكي بالأحمر القاني ... وقررت جميع الأشجار أن تكتسي هذا الربيع بحلة حمراء عوضا عن الخضراء.
اصطبغت الغابة كلها باللون الأحمر وجن جنون قَرقُور ... فلم يعد أحد يدعوه بذي القوة ... ولا حتى قَرقُور القَدَرُ المَقْدُور ... بل عاد كأول شأنه : قِردٌ مأجور ... والأدهى من ذلك والأمَرُّ أن بعض الفضوليين بدأ ينبش في تاريخه القديم ... وأخبر الجميع أنَّ قَرقُورَ هذا كأصحابه الخنازير ... ربما كان مسخا من سلالة قوم مغضوبين ملعونين لسوء أخلاقهم ودَنَس أعراضهم ... وأن البقعة الحمراء والذنب المرفوع ... إنما هي علامة ربانية ... تدل على دناءة الطبع وانحطاط الأدب والسلوك ... وقد وُسِمَ بها قَرقُورُ وفصيلته شارة تميزهم من بين الخلائق أجمعين.
قرر قَرقُورُ إستدعاء لجنة طبية من أشهر المختصين في الأمراض الجلدية وذلك لدراسة الوضع وتقديم النصح ... وكان أفضل ما قدمته هذه اللجنة من حلول ... هو أن تُطلى البقعة الحمراء المعنية بلون آخر ... وأن تجرى عملية تقويم للذيل ... لتُزيل اعوجاجه وتجعله متدليا إلى أسفل كبقية المخلوقات ... ليستر ما ينبغي ستره من مواضع ... لكن المحذور الوحيد في هذه الحالة هو الإقتراب من الماء ... فلن يعود بمقدور قَرقُور الإستحمام بعد ذلك مطلقا ... حتى لا يزول الطلاء وتنكشف الحقائق من جديد ... فهو أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما ... فضيحة البقعة الحمراء ... أو خبث الرائحة النتنة.
رُفِضَتْ جميع الحلول المقترحة ... وسُدَّتْ جميع الأبواب في وجه قَرقُور ... فانتشرت غربانه وفئرانه وثعابينه ... تدوس على الزهور والورود الحمراء ... وتكسر بيض الطيور حتى لا تفقس فراخا حمراء ... وألغيت الحاء والميم من حروف الهجاء ... فقُتلت العديد من الحِملان الوديعة ... والحُمُرِ الساذجة ... والحمائمِ المسالمة ... ولَدَغت الأفاعي كلَّ من وصلت إليه أنيابُها... وقتلت الغِربان كثيرا من الفراش المبثوث بين الزهور ... وامتلأ بطن النَّسْر بالأشلاء والجثث ... فلم تعد جناحاه قادرتان على التحليق بعيدا في السماء.
لم يُجْدِ ذلك كلُّه ... بل تفاقم الأمر سوءا وازداد الوضع خطورة ... خصوصا بعدما وُجِدَت مجموعةٌ من الأفاعي والثعابين ممزقة مقطعة ... وأشيع أن الكلبَ الوفيَّ هو من قام بذلك ثأرا لجيرانه وأقاربه... بينما تكفلت الهررة بملاحقة الفئران ومطاردتها ... وعاد العُقَابُ الذهبي صحبة ابنه الهيثم من رحلته البعيدة وقد استيقظت نخوته وحميته ... وحلقا عاليا في كبد السماء ... فولت الغربان مدبرة هاربة لا تلوي على شيء.
وبكت السماء يومها ... بكت كما لم تبك من قبل ... وانهمرت دموعها حمراء سخية ... فبللت أوراق الشجر ... وأزرار الورد ... ووجنات التلال ... وملأت الجداول والسواقي والغدران ... وغسلت الحقول والسهول والوديان ... وروت القلوب والنفوس والأرواح ... وأشرقت الشمس في الصباح حزينة خاشعة ... ورسمت بأشعتها الخجلى قوس النصر ... بل قوس الشهداء في أعالي السماء ... وقد استبدل ألوانه الزرقاء والصفراء والخضراء باللون الأحمر القاني وحسب.
لم يعد أحد يسمع صوت القرد اللعين ... قيل إنه انتحر ... وقيل إنه قُتل ... وقيل إنه هرب ... وقيل ... وقيل ... إلا أن الحقيقة الوحيدة الساطعة الباقية ... أن الغابة قد خلت منذ ذلك اليوم من القرود ... وفر من تبقى من الأفاعي إلى الصحراء البعيدة ... وعادت الفئران إلى جحورها ... وغاب النَّسْر بعيدا بعد أن حلق العُقاب الذهبي عاليا من جديد.
وكان أول قرار يتخذه مجلس الغابة بإجماع أعضائه كلهم ... من الفَرَسِ الأصيل ... إلى الجملِ الذَلول ... والهُدهُدِ الرسول ... والطاووسِ الوقور ... والديكِ الغَيُور ... والبقرةِ السخية ... والكلبِ الوفي ... والغزالِ الرشيق ... وحمامةِ السلام ... وجَدِّكَ الخروفِ الأبيضِ النقيِ التقي ... أيها الجديُ الصغيرُ الحبيبُ الشقي ... كان أول قرار لهم ... هو إلزام كافة مواليد الغابة الجدد ... وسكانها القدامى والقادمين إليها ... باستخراج شهادة تثبت خلو أجسادهم من أي بقعة حمراء ...
كان الجدي الصغير يغط في نوم عميق ... في حضن جدته النعجة العجوز ... وقد ضمت أصابعه الصغيرة ورقة هامة أعطيت له هذا الصباح ... ورقة ملونة بالأخضر والأبيض والأسود ... تزهو وسطها ثلاث نجمات حمراء قانية ... وقد كتب في أعلاها بالخط العريض واللون الأحمر : شهادة الدم ... شهادة حمرا.
*****************************************************************
إقتباس من الآية الكريمة : " كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ﴿٥٠﴾ فَرَّتْ مِن قَسورة ﴿٥١﴾" – المدثر ، أي كأنهم حمر وحشية فرت في كل صوب لرؤيتها الأسد قادما.
المعاني :
النَّسر : طائر جبان وضيع عند العرب، يتغذى على الجيف فلا يقترب من فريسته حتى تموت، وغالبا ما ينتحر عندما يكبر ويصيبه المرض.
العُقاب : من الجوارح ذات الشرف والمكانة أطلق عليه العرب لقب ملك الطيور، قوي يأكل مايصيده بنفسه، فينقض على فرائسه كالقوارض والقرود والثعابين والذئاب والثعالب من شاهق، ويقال في المثل (أحد من نظر العقاب) لنظره الثاقب، والهيثم ولده، ومن أشرف أنواعه العقاب الذهبي، ويستخدم شعارا ورمزا في العديد من الممالك والدول.
النعيق والنهيق والنقيق : صوت الغراب والحمار و الضفدع.
صابر : يطلق على الحمار لشدة صبره على العمل الشاق.
ذَلُول : سهل الإنقياد
حُمُر : جمع حمار