الكابوس الثامن
الكابوس الثامن
د. أفنان القاسم
الأسْوَدُ
لم يكن يوسفو يشعر بنفسه جيدًا، فتذمر: لقد اقترب موعدك، يا يوسفو. لم يكن تعيسًا مع ذلك، المرضى الذين هم مثله يبدون تعساء، وهو لم يكن تعيسًا. ليس لأن ديالا، امرأته، ماتت، وهو لا أولاد له منها، ولا أحد، لم يكن تعيسًا، وكفى. لم يشعر في حياته بالتعاسة، بالحزن ربما، أما بالتعاسة، أبدًا. بالحزن على شيء أضاعه، أو فرصة لم يستطع اغتنامها، أو عمل لم يقدر على إنجازه، وبالألم، لكنه أبدًا لم يكشف عن ألمه. كان هكذا يوسفو، شيء أشبه ببحيرة رِتبا، البحيرة الوردية، الملح في أعماقها، وعلى الرغم من ذلك، تظل يانعة. تطلع من نافذة براكته المشرفة على الدرب الترابي الشاق لسانغالكام، تلك القرية المحظوظة مرتين، لأن البحيرة الوردية تقع على أراضيها، ولأن رالي باريس-داكار ينتهي عند أعتابها. انتظر أكثر مما يجب، فلم يظهر عبدو بقامته الطويلة، وهو يلوح بيده، مبتسمًا. كانت الشمس على وشك الأفول، وغالبًا ما كان عبدو يعود من البحر، وفي سلته بعض السمك الأحمر الفاقع، والشمس على وشك الأفول. غلى يوسفو إبريقًا من القطلب، وصب كأسًا قطّر فيها قطرة من طيب الزباد، وأذاب فيها الكثير من السكر، وراح يجرع كأسه الساخنة جرعة تلو جرعة، وهو ينفخ عليها. كانت عادته ليزيل قلقه، ويبعد الأفكار السوداء عن نفسه، وكأنه يجهز عليها فكرة تلو فكرة. غاصت الشمس في المحيط الأطلسي، هناك حيث كان عبدو في قاربه الصغير، فخلعت البحيرة الوردية ثوب النهار لترتدي ثوب الليل. كانت على بعد عدة أمتار من بحر الظلمات، لكن غياب عبدو جعلها على بعد آلاف الأمتار، فنهض يوسفو من مكانه بسرعة، وغادر براكته، وهو يسارع بالسير في الدرب الترابي، دون أن يرد السلام على أحد ممن يلتقيهم، إلى أن وجد نفسه بين أكوام الملح الأسود، وهنا وهناك في بحيرة الورد المعتم بعض النساء اللاتي لم يزلن يجنين ثمر الدموع.
غادرت النساء المكان، فوجد يوسفو نفسه وحيدًا دون أن يجد عبدو. وبعد قليل، وجد يوسفو نفسه مع بعض أهل القرية الذين راح عددهم يزداد شيئًا فشيئًا، لأن كل الصيادين عادوا ما عدا عبدو. علا في الأجواء غناء امرأة: عما قريب ستنبثق أشعة قنديل من جوف المحيط، عما قريب سيعود آخر صياد يتيم لا أم له ولا أب. كان الصوت حزينًا، يدفع إلى البكاء، ولم يكن أحد يبكي. كان الصوت عميقًا، كان الصوت إفريقيًا. عندما تكون إفريقيا حزينة، إفريقيا لا تبكي. ربما لأنها بكت كثيرًا في الماضي، ذرفت كل دموعها. وعلى حين غرة، انبثقت من شمس الظلام أشعة قنديل عبدو، فصاح أهل القرية فرحين، وهنأوا بعضهم البعض على مرأى عبدو، وهو يقترب بزورقه. أينعت على وجهه الأسود ابتسامة بيضاء على مرآهم، وهمهم يوسفو، وهو يعانقه: شغلت بالنا عليك. كنتُ قد أوغلت في بحر الظلمات أكثر مما يجب، قال عبدو على مسامع الجميع، مما طمأنهم، فعادوا إلى بيوتهم.
أخرج عبدو، وهما في البراكة، سمكتي دوراد وردي اللون، كانتا كل صيده. أنت مثلي، همهم يوسفو، لم تكن محظوظًا يومًا. سأكون محظوظًا ذات يوم، قال الصياد الشاب. ذات يوم، أعاد الصياد الشيخ، وكأنه يحدث نفسه. ثم لعبدو بشيء من الحدة: الحظ لن يجيء بتوغلك في بحر الظلمات، هل تسمعني؟ أسمعك، أجاب عبدو مبتسمًا. إذن لماذا؟ عاد يوسفو يقول بشيء من الحدة. لقد أقلقتني عليك، وحرمت هؤلاء المساكين، جناة الملح، من اللجوء إلى فراشهم باكرًا. عدني ألا يتكرر الأمر ثانية. ولكني لم أبحث عن إلحاق الأذى بأحد. بلى، عندما لا تعود مع غروب الشمس، أنت تلحق الأذى بي، أنا بمثابة أبيك، كما تعلم، بمثابة أبيك. بمثابة أبي. أنا بمثابة أبيك، فَكِّر في أبيك، لا تقل لنفسك إن يوسفو لم يكن ذا حظ في حياته أبدًا، فتغامر بحياتك من أجلي. وعلى أي حال، حياتي على وشك الانتهاء. يوسفو، أنت مجنون إذا فكرت هكذا، همهم عبدو بشفتين مرتعشتين. فتح يوسفو بطن السمكتين، بعد أن برش الحراشف بيد عصبية، وراح يفرغهما، وهو يقول: أنا مجنون إذا فكرت هكذا، ولكني مجنون بالفعل. كن مجنونًا، قال عبدو، ولا تفكر كالمجنون. وهل يتركونك بسلام كيلا تفكر كالمجنون؟ كن مجنونًا، يا يوسفو، كما كنت دومًا، ولا تفكر كالمجنون قلتُ لكَ. ضحك يوسفو، وقال، وهو يغسل الدورادين الورديين، ويداعبهما كما يداعب ثديين: لو كانت حوا مريضة بالسيدا أو لم تكن لما ترددت لحظة واحدة عن مضاجعتها. هذا لأنك مجنون، لأنك ممسوس في عقلك، همهم عبدو. نهداها يخضعان الرجال والنساء في كل السنغال، ردفاها يهزمان كل أفريقيا، فخذاها تجعلان من كل الفرنسيين عبيدًا. وهل كنتَ تعرف؟ سأل عبدو متلألئ الثغر. أعرف ماذا؟ أنها مصابة بالسيدا. وماذا يهم لو كنت أعرف؟ ساقاها تذهبان بكل الزنوج الذين هم مثلنا إلى زمن الحرية. راح يوسفو يقهقه، وهو يضم السمكتين كما يضم حوا: الحياة، ما الحياة؟ مائة عام تجد خلالها بضع لحظات من السعادة أو بضع لحظات من السعادة تساوي مائة عام. آه، حوا!
بدت على وجهه أمارات الحزن، فهمهم: اغفري لي، يا ديالا، يا امرأتي، لو لم تزالي على قيد الحياة لما خنتك! هذا بسبب الخيانة، قال يوسفو لعبدو. ديالا ماتت، كل ما وجد عبدو قوله. هذا بسبب الخيانة، أعاد الصياد الشيخ. حية امرأتك أم ميتة، عندما تنام مع أخرى، هذا يسمى خيانة، وخيانة امرأتك كخيانة الله، ألقى يوسفو. كان عبدو يفكر: مسكين يوسفو، هذا لأنه سيموت عما قريب. إقْلِ لنا السمكتين، يوسفو، أنا جائع، لم آكل شيئًا كثيرًا في بحر الظلمات. أراد عبدو أن يغير الموضوع، ويعيد إلى صديقه الشيخ روح الدعابة، روحه، لكنه رآه يلقي السمكتين جانبًا، ويحرك أصابعه الطويلة الكالح لونها أمام عينيه، وهو يقول: بالله عليك أن تقول لي لماذا لم تستمِعْ إليّ؟ من؟ همهم عبدو، وقد حيره سؤاله. من غيرها؟ ديالا! لم يعلق، كان الشيء يجثم ثقيلاً على قلبه، فتركه يقول، ليخفف بعضًا من ثقل الشيء الجاثم على قلبه. لم يكن ذنب السيد فرانسوا كاس، كان ذنبها، همهم يوسفو. السيد فرانسوا كاس، همهم عبدو. تعرفه. أعرفه، كيف لا أعرفه؟ كل الناس في السنغال تعرفه، تاجر السيارات المستعملة. نعم، كل الناس في السنغال تعرفه، أعاد يوسفو، وكأنه يريد الوصول إلى شيء يعجز عن البوح به. يشتري السيارات المستعملة باتنين يورو ويبيعها بالآلاف، قال يوسفو، كل الناس في السنغال تعرفه، كل الناس في السنغال تسوق بفضله. ليس كل الناس تسوق، قال الصياد الشاب، ولكن الناس الذين يسوقون يسوقون بفضله، شيء كثير أن نقول كل الناس تسوق بفضله. بفضله أم بغير فضله، نرفز يوسفو، هذا لا يمنع من كون كل الناس تسوق بفضله. يوسفو، رفع عبدو صوته على معلمه، إلى ماذا تريد أن تصل؟ ما شأن امرأتك، ديالا، رحمها الله، في كل هذا، كل الناس تسوق بفضله؟ كل الناس تسوق بفضله، همهم يوسفو. وبعد ذلك، بدأ يرتعش لما راح يصيح: كانت تعمل عندهم ديالا، امرأتي، أنت تعرف هذا. هز الشاب رأسه، فتابع الشيخ: عندهم، أعني عنده. وأنا... وتردد: ليست حوا، لم تكن حوا، لم أعرف في حياتي امرأة اسمها حوا. يوسفو! صاح عبدو كمن سحقته الكلمات. كانت ديالا، اعترف الشيخ، وهو يجدف بالمجذاف على نفس موجات صوته العالية. وبعد قليل، همهم: ها أنت تعرف كل شيء، الوحيد الذي يعرف كل شيء. كانت ديالا، همهم عبدو بصوت يُسمع بالكاد.
تناول يوسفو المقلى ليقلي الدورادين الورديين، فأوقفه عبدو: لا بأس، أنا لم أعد جائعًا. وكأنه لم يسمعه، كان الشيء الجاثم على قلب يوسفو لم يزل ثقيلاً، لم يزل ثقيلاً ثقل الكذبة التي احتفظ بها طويلاً، فراح يقول: عندما عَجِزَتْ كل السنغال، كل إفريقيا، عن معالجتها، طَلَبَتْ مني أن... وصاح يوسفو فجأة: لكني لم أفعل في البداية. قلت لها سنذهب إلى المرابط، فرفضت، لأنها لم تكن تريد العيش. كانت كل الأدغال التي في جسدها تتأكل، بالصدأ تتأكل. هل سمعت بأدغال تتأكل بالصدأ؟ كانت الأدغال التي في جسدها. لم يحتجني ذلك إلى قوة كبيرة بعد أن هزلت حبيبتي ديالا، وغدت كأعواد الدُّخْن. سقط كلاهما في الصمت، لم تعد للضواري أصوات، ولا للشلالات، ولا لمناجم اليورانيوم والذهب والعقل. كان كل شيء يسقط في الصمت، وكانت على إيقاع الصمت ترقص الفساتين القصيرة في الشانزليزيه. سأذهب، همهم عبدو، وهو يقف. لن تذهب، قال يوسفو، وهو يمسكه من ذراعه، ويشده في مكانه على الكرسي. رمى المقلى، فأراد عبدو أن يقول شيئًا ليخفف قليلاً من وطأة الجو: الواقع أنني لم أقل لك الحقيقة، أنا أيضًا، لم أقل لك لماذا أوغلت في بحر الظلمات، فأصغى يوسفو بكل انتباه. إنه خَيْمَر الذي أردتَ صيده، ولم تقدر على ذلك، كشف عبدو. الكائن الذي له رأس أسد وجسد شاة وذيل ثعبان؟ هتف يوسفو، ولكنه خرافة، يوسفو ثان، يوسفو المريض اليوم بالسيدا، غير ذلك الذي قتل ديالا، امرأته ديالا، حبيبته ديالا، امرأته، حبيبته، والذي يتظاهر بالعيش بانتظار أن يأتي أحد لقتله. كاسمه خرافة، عاد يوسفو يهتف، لا شيء غير خرافة. لا تكن مجنونًا مثلي، أضاف بعد أن هدأ، كن عاقلاً، واعرض عن ذلك. وبضع اللحظات من السعادة التي تساوي مائة عام؟ سأل عبدو، وهو يبتسم بحزن، كأنه مستشفى "لا بيتييه سالبيتريير". هذا الكائن الذي لا وجود له هو حوا بالنسبة لك الآن؟ سأل يوسفو بدوره، وهو يبتسم ابتسامة ساخرة، نهداها، ردفاها، فخذاها، ساقاها، كل مفاتنها وكل كوابيس جسدها. لم أَصِدْهُ ليس هذا لأني لم أقدر على ذلك، أوضح الشيخ الضائع، وإنما لأنه غير موجود، لم يجده أحد في الدغل لتجده أنت في البحر؟ لأن البحر مملكته، قال الشاب الحالم، هذا ما كنتَ ترددُ أنت. مستحيل. إنه موجود. مستحيل. إنه موجود، إنه موجود، رأيته بأم عيني. رأيته بأم عينك؟ رأيته بأم عيني، رأيته البارحة، ورأيته اليوم، بدأ يعرفني، وبدأت أعرفه، وهو يبدو عليه أنه يفهم ما أريد. يفهم أنك تريد صيده؟ يفهم ما أريد، يفهم أنني مثلك ما كنت يومًا صيادًا محظوظًا، وأنني أفعل ذلك من أجلك، قبل أن تموت، يوسفو، وتذهب عني بعيدًا كما ذهبت عنك بعيدًا ديالا، امرأتك. كلنا سنذهب بعيدًا ذات يوم، تنهد يوسفو، كلنا سنموت... كلنا سنموت... وبخطوات بطيئة، غادر الكوخ. لم يتبعه عبدو، تركه وحده. كلنا سنموت... تركه ليشعر بنفسه خفيفًا كجناح إفريقي بعد أن أزال عنه كل ما كان يجثم على قلبه. كجناح إفريقي. كجناح تحرر. كجناح يخفق في الفضاء بعد أن تحرر.
في فجر اليوم التالي، أخذ عبدو عدته وعتاده، وقطع بقاربه البحيرة الوردية إلى المحيط الأطلسي دون أن يعود كباقي الصيادين قبل غروب الشمس، دون أن يعود في المساء، خلال الليل، دون أن يعود في الصباح. جاء يوسفو، وجاء أهل القرية، وعلا غناء المرأة في الأجواء: عما قريب ستنبثق أشعة قنديل من جوف المحيط، عما قريب سيعود آخر صياد يتيم لا أم له ولا أب. تكرر الأمر كل يوم، ويومًا عن يوم كانت حالة يوسفو تتدهور، وتزداد سوءًا، إلى أن لفظ نفسه الأخير. ألقت القرية بنفسها خارج الزمن، لتلحق بيوسفو في عالم العِتْق والتهويم. وضع بعض أفرادها رؤوس الأسود على رؤوسهم، وبعضهم الآخر أجساد الشياه على أجسادهم، وضربوا من ورائهم بذيول الثعابين. رقصوا حول جثمانه حتى كلوا، ورتلوا حتى ملوا، وبعد ذلك دفنوه، وهم يلقون نظرهم باتجاه بحر الظلمات. ذهبوا لجني الملح من البحيرة الوردية، وهم يلقون نظرهم باتجاه بحر الظلمات. ظلوا كل مساء يجيئون، وهم يلقون نظرهم باتجاه بحر الظلمات، كل مساء، إلى أن كان مساء رأوا فيه خيّالاً يقود وحشًا غريبًا، وحشًا كبيرًا، وهو يشق الموج، ويسحب من ورائه قاربًا صغيرًا. خافوا، وأرادوا الهرب، لكنهم لما رأوا عبدو ممتطيًا خَيْمَر خيالاتهم، انتظروا، ونظروا مبهورين. قالوا لعبدو إن يوسفو قد مات، فبكى عبدو لأن يوسفو لم ير الكائن الخرافي الذي لم يقدر على صيده. بكى كطفلٍ فقد اباه، وسالت دمعة حارة من عين هوميروس عليه. أراد عبدو أن يعيد خيمر إلى المكان الذي أحضره منه، فبعد موت يوسفو، لم يعد هناك سبب يدفعه إلى الاحتفاظ بابن الإنسانية. نزع اللجام عنه، وحرره، فلم يتحرك من مكانه. كلمه، قال له: مات يوسفو، ألا تفهم؟ ولا فائدة من العناد. مات الذي كان يحلم بك، مات الذي أفنى عمره من أجل صيدك، فاذهب بسلام. كان الكائن الخرافي يفهم ما يقول، لكنه لم يتحرك من مكانه. هذا لأنه تَعِبٌ، قالت إحدى القرويات، قَطْعُ بحر الظلمات لم يكن سهلاً، فاتركه يرتاح. وهل هناك خيمرٌ يرتاح؟ همهم عبدو، اذهب بسلام، قلت لك. لن يذهب، يا عبدو، قال أحد القرويين، لا أحد يضع القدم في بلدنا إلا ويريد البقاء فيها. اذهب، يا... قال عبدو للكائن الخرافي، سأسميك، سأسميك... سمه "حُلْم"، اقترح قروي ثان. سأسميك حلم يوسفو، همهم عبدو، طيب؟ حلم يوسفو. اذهب، يا حلم يوسفو، عد إلى بيتك. حلم يوسفو، هل تسمعني؟ عد إلى بيئتك، عد إلى وسطك، أنت ابن البحر. ليتهرب خيمر من عبدو، لفَّ من حول الحاضرين، وخبأ نفسه بظهورهم. ضحك الكل، وقالت امرأة لعبدو: إذا كنت لا تريده، فأنا أريده، اتركه ينام عندي، لم أعد أحلم منذ زمن بعيد. أراد كل واحد من أهل القرية أن يأخذ خيمر عنده، فبانت على وجهه علامات الارتياح، لكنه لما رأى علامات الضيق على وجه عبدو، عاد إلى الوقوف بين يديه. أنت من العناد ما كانه يوسفو، يا حلم يوسفو! قال عبدو، وهو يطبطب على ظهره، ويسحبه من لبدته.
* * *
لم يبق مريض واحد بالسيدا في سانغالكام، كان من وراء ذلك خيمر، حُلْمُ يوسفو. لم يكن عبدو يعلم أن الكائن الخرافي كان من وراء ذلك، لأن كائن الحُلم يفهم، ولكنه لا يتكلم، فلم يقل لسيده إنه هو من عالج مصابي القرية، وجعلهم يبرأون. ولأن الكائن الخرافي كان يفعل بالسر ما يفعل، كان يخرج في النهار دون أن يقول إلى أين هو ذاهب، أو كان يترك البيت في الليل، وعبدو نائم. وفي أحد الأيام، تبعه عبدو حتى بيتٍ كانَ نائيًا، وتفاجأ على سماع صياح الفرح، دون أن يرى ما وقع. لكنه رأى الأم، وهي تضم طفلها، وتبكي لسعادتها، ورأى الطفل، وهو يضم أمه، ويبكي لسعادته. حُلْمُ يوسفو، خاطب عبدو خيمر، هل هذا أنت؟ لا تكذب عليّ، قل الصدق، هل هذا أنت؟ بقوة الأسد التي لديك تبرئ الناس أم بحليب الشاة أم بِسُمِّ الثعبان؟ حلم يوسفو، لا تكذب على عبدو، صاحبك، أنا صاحبك، فلا تكذب عليّ. حلم يوسفو، تكلم. كانت تتحرك على وجه الكائن الخرافي الظلال، وكان الكائن الخرافي يأخذ بلعق عبدو بلسانه، وبدغدغته بذيله، فيكركر عبدو. توقف، يا حلم يوسفو! توقف، يا حلم يوسفو! يردد عبدو، وخيمر لا يتوقف حتى يكاد يغمى على عبدو من كثرة الضحك.
ذاع صيت الكائن الخرافي في كل داكار، فقال عبدو لحلم يوسفو، وهو يرى طابور المرضى بالسيدا الطويل: أنت مبسوط كما أرى، قوتك من شفاء الناس. داعبه عبدو من عنقه، وشد رأس الأسد الذي له بين ذراعيه. قوتك من شفاء الناس، همهم عبدو. كان يكفي للمريض أن يشرب من ضرع الشاة التي لخيمر بضع قطرات من الحليب، فيذهب عنه مرضه إلى الأبد. قوتك من شفاء الناس، يا صديقي، يعود عبدو إلى الهمهمة، والناس في كل مكان من السنغال تريدك. الآن أفهم لماذا رفضت العودة من حيث أتيتُ بك. آه، يا ليوسفو المسكين، لماذا ماتَ ولم ينتظر قليلاً؟
ذهب عبدو بحلم يوسفو إلى كل مدن السنغال، ليبرئ بالحلم كل المرضى بالسيدا، وليسمع صياح الفرح. اعتاد عبدو على سماع صياح الفرح، لهذا ذهب بالكائن الخرافي إلى كل مدن السنغال، واحدة واحدة، فمن الصعب على المرء أن يتخلى عن شيء اعتاد عليه. كان عبدو يضم خيمر كلما اختلى به، ويسأله خائفًا على صحته: هل ما زال في ضرعك الكثير من الحليب؟ لا تبتسم ابتسامتك البلهاء هذه، وفكر في نفسك، فكر في صحتك... فكر فيّ. وبعد قليل، يقول له: جيراننا أيضًا يريدونك، نعم، كل جيراننا، فأنت أشهر من نار على علم الآن. جيراننا. كل جيراننا. كلنا مرضى، يا حلم يوسفو. كلنا مرضى، وَمَنْ غيرك لنا لينقذنا؟ فانتبه على نفسك، انتبه على صحتك، بعد موت هذا المأفون يوسفو لم يبق لي أحد آخر غيرك.
بعد جولة في موريتانيا، ومالي، وغينيا، وغينيا بيساو، وغامبي، نادت على حلم يوسفو دول أفريقيا الباقية، فلبى الكائن الخرافي النداء. كان كلما سأل عبدو عنه بدافع الخوف على صحته، رد عليه بابتسامته المعهودة، لكن عبدو لم تعد تطمئنه ابتسامة خيمر كثيرًا، كانت تطمئنه قليلاً، ولم يكن يعرف لماذا.
في باريس، استقبلوه كما يستقبلون الرؤساء والملوك، صعدوا به شارع الشانزليزيه، وعكف الأطباء على تحليل حليبه. ها أنت غدوت كما لم تتوقع أبدًا، همهم عبدو في أذن صاحبه، شيئًا كبيرًا، وأنا لا أحب كل هذا. كان تعيسًا، فلم يبتسم خيمر. كان هو أيضًا تعيسًا. كان تعيسًا لأن عبدو كان تعيسًا. ما رأيك لو...، قال عبدو فجأة، وابتسامته عادت تتلألأ على ثغره. ما رأيك بجولة لنا وحدنا في أحياء باريس؟ ابتسم حلم يوسفو، وعبدو يضيف: سنحب واحدة، أنا وأنت، يوسفو كان يحب واحدة لم توجد على وجه الأرض، كان يحب حوا، عاهرة لم توجد على وجه الأرض.
في مساء باريس المعطر، راح الصديقان يتجولان، وينظران إلى النساء. تلك القنطرة هناك، قال عبدو لحلم يوسفو، هل تراها؟ لم يكن الظلام كثيفًا، وتحت الأشعة الشاحبة للقنديل، كانت هناك فتاتان. إنهما لنا، همهم عبدو. لي ولك. سنحبهما كما أحب يوسفو حوا. وهما قربهما، سمعا الواحدة تقول للأخرى: إذا ما توقفتِ عن حبي ألقيت بنفسي في السين. هل سمعت، يا صديقي؟ همس عبدو في أذن الكائن الخرافي، ستلقي بنفسها في السين، السين يبتلع الكثير كما نسمع، يبتلع الكثير كما تبتلع السيدا عندنا. تقولين فلألق بنفسي في السين؟ عادت الفتاة إلى القول للأخرى. سألقي بنفسي في السين، ولا تلومي بعد ذلك إلا نفسك. طيب؟ سألقي بنفسي في السين. استعدت للقفز، وفي اللحظة ذاتها، أطلق خيمر من ذيله بضع قطرات من سُمِّهِ على الفتاتين، وإذا للسم مفعول السحر عليهما. ترامت الواحدة في أحضان الأخرى تحت النظرات الدهشة لعبدو، وما لبثتا أن ذهبتا في قبلة طويلة. لم أكن أعلم أن لك هذه القوة أيضًا، قال السنغالي الشاب، قوة الحب بين الناس، والكائن الخرافي يبتسم. لا بد أنك تخفي عني أشياء كثيرة. هل تخفي عني أشياء أخرى؟ حُلْمُ يوسفو، أنا صاحبك، فلا تخف عني شيئًا، طيب؟ لا تخف عني شيئًا. إذا أخفيت عني شيئًا ألقيت بنفسي في السين. لا، لا تقلق، أنا أمزح، فقط لا غير. وبعد قليل: إذن قوتك من شفاء الناس، ومن حبهم، هذا هو الفعل وإلا فلا!
عندما عاد الصديقان إلى داكار، وجدا الدنيا قائمة قاعدة. لم يعد الناس يريدون الرئيس رئيسًا، ولأن الناس، بعد أن برئوا، راحوا يبحثون عما يبحث عنه كل ذي صحة جيدة: كل الحقوق. أراد الناس أن ينصّبوا حلم يوسفو عليهم رئيسًا، فرفض، لكن عبدو حاول إقناعه: أنت كأسد لا بد لك من عرين، وسدة الحكم ستكون لك عرينًا. هل تخشى العدل؟ قل لي، هل تخشاه؟ كل مهابتك، وتخشى العدل؟ أم أن العدل ليس قوتك كالحب قوتك والشفاء قوتك؟ حلم يوسفو، حقق حلم يوسفو، يوسفو لم يعرف العدل في حياته يومًا. لا تخش شيئًا، لن أتركك وحيدًا، لن أتركك لقمة سائغة للضيم، سأكون إلى جانبك، سأصيح عليك عندما تنسى ولا تعدل.
بعد عدة أيام على رأس الدولة، بدأ الكائن الخرافي يهزل، وينحل، ويفقد قواه. كان عبدو يراه يهزل، وينحل، ويفقد قواه، ويقول لنفسه إنه ذنبه، لأنه دفعه إلى ذلك، إلى أن يقيم العدل، والعدل ليس قوة من قواه، وَضْعُهُ يبرهن على ذلك. أمام كدره وسخطه، إذا به يسمع خيمر يقول، كان يعرف الكلام، وكان يقول ما يقول شعرًا:
في بحر الظلمات
لا أحد يعرف العدل
لأن لا أحد يعرف الظلم
في بحر الظلمات
في بحر الظلمات
لا أحد يشعل النار
لأن لا أحد يطفئ الليل
في بحر الظلمات
في بحر الظلمات
لا أحد يعرف الموت
لأن لا أحد يجهل أسرار الحياة
في بحر الظلمات
كان الكائن الخرافي على وشك الموت، فضمه عبدو، وبكى. لا تبك، يا صديقي، قال خيمر. إذا متَّ متُّ معك، قال عبدو. لن تموت معي، قال خيمر، لدي من القوة ما يجعلني أبقيك حيًا إلى الأبد. لا أريد، قال عبدو، أريد أن أموت معك. انفجر الاثنان يبكيان، وكل منهما ينوح في أحضان الآخر، لما، فجأة، قال عبدو، وهو يمسح الدمع: كل القوى المعجزة التي لك، ولم تفكر، كما يجب عليك أن تفكر، يا حلم يوسفو! يحصل أن أكون قويًا في أشياء وألا أكون قويًا في أشياء، قال الكائن الخرافي، ثم، بخجل: ككل كائن خرافي. سأعيدك إلى بحر الظلمات، قال عبدو، وهو ينهض واقفًا، هناك حيث لا أحد يجهل أسرار الحياة.
وبالفعل، عاد عبدو بالكائن الخرافي إلى بيته، إلى بحره، إلى بيئته، إلى إفريقياه، إفريقياه التي لم تُكتشف، لم تُغتصب، لم تُبع في أسواق النخاسة، لم تُنهب، لم تَفتك بها الأمراض، هناك حيث يسكن الحلم، ولا مكان للملح إلا في البحيرات الوردية.
الكابوس القادم: الأصفر