اللحظة السادسة... لحظة انهيار !
اللحظة السادسة... لحظة انهيار !
بخور مريم
ذ. جمال الحنصالي
... انتصرَ أخيرا على هذ الكسل الذي دبّ في جسده المنهك من شدة السهر، وتجافى عن نومه الذي استوفى ساعاته البيولوجية مودعا وجه القمر، استلّ أطرافه الساخنة، من تحت الغطاء المزين بزهور الزّنبق الجميلة، بتأفف عميق وتثاقل مزْعج وكثير من الآهات الخفيفة.. كأنه يحنّ إلى نهاية النهار من جديد والاستسلام لسبات عميق...
لكنّ الليل دبرَ وتفصّد شجر صباح شتوي جديد، فودّع أحلامه الوردية التي تساقطت بتناسخ ليلة البارحة على وسادته ذات اللون الأخضر، ألقى نظرة ضبابية على منبهه الذي تتوسطه وردة قرنفلية داكنة، فاستغرب كيف لم يهتز طبل أذنه كالعادة؟ ولم يسمع رنات الساعة السابعة. استدرج الكترونات ذاكرته المثخنة بالأحداث وحثّها على التفكير وهو يحكّ رأسه مخللا أصابعه القصيرة داخل شعره المجعّد.
أمعن في الأمر قليلا، لكنه لم يفلح في تذكر أي شيء..
مدّ يده إلى الطاولة المحاذية للسرير حيث وضع نظارته على كتاب يتحدث عن الزهور، أخذ النظارة بتقاعس ووضعها دون تثبيت ليبدد الضباب الذي كان يعيق بصره، توجه إلى المرآة المثبتة على حائط الرواق كما العادة، فاجأته غصّة ففتح فمه حتى برزت الطلاطلة واضعا كلتا يديه وراء رأسه وصدره إلى الأمام.. يبدو أن عصافير النعاس مازالت تحوم حول مركز ثقله، لكن اليوم عليه القيام بشيء مهم تذكره للتو..
اندفع إلى الحمام.. غسل أسنانه بالسنون بنكهة النعناع.. ودون أن يرتشف كأس الشاي كما ألف، ارتدى على وجه السرعة معطفه الأخضر، وقبل أن يهم بالخروج، جلى بنظره من خلال النافذة إلى الزقاق الضيق الذي يفصل شقته عن معشبةٍ شعبية، تقاسم نظرات سريعة ومريبة مع فتاة خيصاء كانت تنتظر دورها أمام المعشبة.. أغلق النافذة بسرعة البرق وقال مع نفسه:
- يوم مشؤوم، علي الانصراف في الحال !
فتح باب الشقة بصعوبة فقد كزّم البرد أصابعه، واستقبله أصيصٌ غرست زهرة بخور مريم في كبده، حمله بوداعة كأنه رضيع نائم، أدخله إلى الشّرفة وبصّ عليه قليلا من الماء.. إنه يعشق هذا النوع من الزهور الذي قرأ عنه الكثير.. والآن صار بين يديه.
اعتنى بالزهرة اعتناء منقطع النظير، خصّص للأصيص مكانا استراتيجيا في الشّرفة، نظر إلى الزهرة بكل الحنان الذي يذخره قلبه الساذج وبقي واقفا قبسة من الزمن ثم استدار وأخذ نفسا عميقا كأنه يودع شخصا عزيزا.
أثار انتباهه باب الشقة الذي حركته زفرات الريح المتسللة إلى العمارة، وضع يده في جيب معطفه ومَغَس حزمة من المفاتيح باحثا عن مفتاح الشقة، أخرجه ثم أقفل الباب بإحكام. وأول مرة في حياته يشعر بالحنين إلى شقته بعد أن كانت الشوارع تنتشله من الرتابة التي ينغنمس فيها بلا هوادة.
الفرحة بادية على محياه، ألقى التحية على البقال وأخذ كسرة خبز متشردة ووضعها بمحاذاة الجدار بعد أن قبّلها، مشى بضع خطوات ثم وقف ليتحسّس شعر ابن الجار المشاكس، ثم التفت وراءه ليتقاسم الابتسامة مع الفتاة الخيصاء.. حرّك رأسه وضمّ شفته السفلى لأختها العليا ثم أرسل نظره إلى الأسف قائلا:
- ظَلمتك يا مسكينة...
وقبل أن يقطع الزقاق في اتجاه الشارع الكبير، رنّ هاتفه النقال المخنوق في جيب سروال "الجينز"، استله بإبهامه وسباته، ألقى نظرة على شاشته المرصعة بالورود.. إنها رسالة قصيرة:
- أنا مريم.. شكرا على الإميلات التي أرسلتها إلي طوال ليلة البارحة، صور الزهور كانت جميلة، اليوم فقط فتحت علبة الاستقبال وألقيت نظرة عليها أنا و... زوجي.
اشرورقت عينه دمعا، وانكسر قلبه انكسارا.. وأحس بالشارع يمتد به إلى السماء الداكنة، تبخّر كل شيء عن هذه الفتاة.. عفوا السيدة مريم.. رمى بالهاتف بقوة والغضب يستعمر أركان هواجسه، اتكأ على الحائط ثم هوى على الأسفلت قرب كسرة الخبز.
مسح بمنديله الأبيض أنفه، ثم رفع بصره ليجد ابن الجار سِحاج وجهه، بادره قائلا:
- عمي.. عمي.. أبي يبحث عنك، يريد أصيص زهرة بخور مريم، إنها هدية لأمي، وقد وضعها بائع الأزهار البلاستيكية خطأ أمام شقتك...