على اسمي أنا
على اسمي أنا
سمر حامد العامودي
تزوجتْ أمينة من ابن عمتها أمين، وتطابُق الأسماء هذا ليس مصادفة، فالعمة أم أمين هي التي سمّت أمينة بهذا الإسم، حيث كانت أوّل بنت لأخيها الوحيد الأصغر منها بعدة سنوات، وها هي ذا تحب زوجته وتعاملها كأنها أختها الأصغر سناً، لذا سمحت لنفسها أن تُسمي ابنتهم الأولى.
وتفاصيل هذه الحكاية سمعتها من العمة نفسها حين حكتها لأمي: أن العمة بعد ثلاث فتيات جميلات، أنجبت صبياً أسمته أميناً، كان قد بلغ عشرة أعوام عندما جاءت أمينة إلى هذه الدنيا.
ولا تفتأ تقول كلما اتفق لها أن حملت ابنة أخيها بين يديها: أمينة عروسٌ لأمين، ولن تتزوج غيره، وتختلس النظر إلى أخيها وزوجته عقب هذه ألجملة، متفحصة ما فعله أثرها على وجهيهما ، وتبتسم لذلك، فيرمقها أخوها بنظرة عتاب قائلاً: لماذا تستعجلين الأمور يا أختي ؟ أماّ أم أمينة فيعجبها كلام أخت زوجها وتبتسم أيضا وترفع بنظرها إلى السماء قائلة إن شاء الله. ولا عجب من هذا، فقد كانت أم أمين تسكن قريبة من بيت أخيها فهي جارتهم وتزورهم كل يوم صباحاً أو مساءاً ولا يملون منها فهم يحبونها ويحبون أولادها، وهم كالعائلة الواحدة إذ لا ينقص هذه العمة شيئاً من أمارات السعادة والغنى، ورجاحة عقلها وحكمتها، وقدرتها على حل المشاكل.
وكبرت أمينة وترعرعت في ظل والديها وعمتها التي أضحت تحبها حباً جماً، وكانت تخصها بالهدايا والدلال حتى بعد أن صار لها أخ وأخت، ومع ذلك كانت أمينة في بعض الأحايين تعترض على إسمها وتشتكي لأمها، حين يتكرر في المدرسة بعض الأسماء الحديثة والجميلة للطالبات، فتعاتب أمها بدلال قائلة: لماذا لم تسميني رنا أو مها- أو ما شابهها من الأسماء الخفيفة في ذلك الوقت- يا أمي، فتبتسم الأم بحنان قائلة عمتك هي التي سمتك أمينة. فتسكت البنت وتذهب للعب.
وأنهت أمينة الثانوية العامة بنجاح، وفرح ذووها كثيراً، وأحضرت لها عمتها عدة هدايا قائلة: هذه لك مني وهذه من أمين بحكم الخطوبة التي بينهم، وتستميلها بذلك نحو ابنها الذي ينتظر ابنة خاله بفارغ ألصبر. ودخلت دار المعلمين آنذاك لتتخرج بعد سنتين معلمة، أما خطيبها فلم يحظ بكبير طموح في التعليم، ولكنه محباً للعمل، فعمد لمساعدة أبيه في مصنع الصابون الذي يملكون.
أما هدية التخرّج لأمينة من عمتها فقد كانت بذلة العرس والذهب الخاص بالعروس، وهكذا تم ما كانت تنتظر أم أمين منذ عشرين عاما، عُرساً بهيجاً للعروسين.
والآن صارت العروس في بيت عمتها، ذاك البيت الفسيح الواسع. إذ لم يكن يضم غير العمة وزوجها بعد زواج بناتها الثلاث.
ولم تكن ابنة الأخ تتضايق من عمتها أياّ كان التصرف ومهما كانت تقول فقد كان الحب والود يعمران قلوب من في البيت،
وفي يوم جميل هادئ، كهدوء هذا البيت المذكور، جاءت أمينة وجلست بجانب عمتها والإبتسامة لا تفارق محياها، قائلة: عمتي هناك خبر جميل أود أن أخبرك به. وأردفت قائلة. أنا حامل يا عمتي. صاحت العمة فرحاً الحمد لله هذا فضل عظيم.
عدّت العمةُ أشهر الحمل بالساعات، لذا بدت أشهر الحمل وكأنها سنين، كانت أمينة سعيدة جداً لفرح عمتها ولكن! هناك أمراً كان يقلقها، إذ كانت العمة تردد كل يوم على مسمع من أمينة، ماذا تتوقعين أن يبعث ألله لنا؟؟ فإن كانت بنتاًً سمّيناها فتحية، وإن كان ولداً إن شاء الله، كان على اسم جدّه. وأحياناً كانت توجه الكلام إلى ابنها قائلة: هل لك رأياً آخر يا أمين؟ وكأنّ رأيْ أمينة تحصيلٌ حاصل.
ما انفكت العمة تعزف على هذا الوتر يومياً دون تعب أو كلل. وأمام أم أمينة وأبوها. أما أبو أمين فقد كان يهمس لزوجته بصوت هادئ كعادته: أنا أرى أن تتركيهم على راحتهم ليختاروا ما يشاؤون من الأسماء. فترفع حاجبيها إلى أقصى ما يكون الرفع قائلة بصوت هو إلى الجرس أقرب: إسمعي ما يقول عمك؟ ملتفتة بذلك إلى أمينة الجالسة بكل هدوء في زاوية المنزل، مكانها المفضّل. وترد عليها بنظرة تعقبها ابتسامة كأنما تختفي قبل أن تبدأ.
وتسرّح بنظرها في وجه زوجها أحياناً تعاتبه، كأنها تقول: أريد أن أسمي ما يحلو لي من الأسماء، دون أن تنطق، ويرد زوجها بنفس طريقتها، ليس بيدي حيلة فنحن في بيت واحد.
وهكذا كانت تمر الأيام بحساب دقيق وأحياناً مملّ من العمة الحبيبة. إلى أن حان وقت الولادة، فأُخذتها إلى مستشفى المدينة، وولدت بنتاً في صباح ذلك اليوم الصيفيّ الجميل، وفي آخر ألنهار وقبل مغادرتها المستشفى كان يجب عليهم جميعا تأكيد اسماً للحفيدة، عندما سألت الممرضة الأب ، فأجابت أم أمين دونما تردد، إسمها فتحية مفترّةً عن ابتسامة عريضة، وأردفت: على اسمي.
ذهبت الممرضة بعد أن باركت لهم . ولكنّ أمين ذهب خلفها بخفة قائلاً: لعلها تريد معلومة أخرى.
ومنذ ذلك الوقت كانت فتحية الصغيرة وفتحية الكبيرة. إلى أن اقترحت أمينة على عمتها: ما رأيك عمتي في أن نناديها فوفو إلى أن تكبر فيكون اسمها أليق بها؟ ومنذ ذلك الوقت كانت فوفو الجميلة الرقيقة تكبر وتكبر إلى أن دخلت المدرسة في الخامسة من عمرها.
أحياناًً كانت جدتها تناديها فتحية دون دلال منها، تتباهى أمام جاراتها بأن حفيدتها سميت باسمها.
ومرت الأيام كالسهام المتلاحقة. وفوفو تزداد جمالاً ودلالاً. وصارت في الصف الرابع الإبتدائي. متممةً بذلك العشر سنين متميزة بذلك عن أخويها الصغيرين عند جدتها ولا عجب، فهي البكر أولاً، وتحمل اسمها ثانياًً.
وفي يوم من أيام الدراسة، مرضت فوفو وتغيبت عن مقعدها الدراسي لأكثر من أربعة أيام دون اعتذار من والدتها كعادتها في مثل هذه الظروف فهي تذهب لتبرر غيابها. لمرض أو سفر مثلاً ولكن في هذه المرّة حمْل الأم في شهرها الثامن وانشغالها في أولادها حال دون ذهابها إلى ألمدرسة، وصادف أن كان تسليم شهادات نصف السنة، فاتفقت معلمتان من المدرسة.
تصحبان طالبتين صغيرتين، كنّ صديقتان لفوفو لمعرفتهنّ بمكان منزلها، لزيارتها والإطمئنان عليها، ويباركن لأبويها تحصيلها علامات ممتازة، وذلك بعد إنتهاء دوامهنّ عند الظهيرة، ورحّبت فيهم ألجدة حيث استقبلتهنّ بحفاوة، وسلمنّ عليها عند وصولهن، دون علم أمها فقد كانت تقيل في ذاك الوقت لحاجتها للراحة. فقلن للجدة نحن معلمات رهف ونريد الإطمئنان عليها، علمنا أنها مريضة، ضحكت الجدة قائلة: لعلّ هناك خطأ في الإسم يا بنيتي فهذه ابنة ابني فتحية وندللها فوفو. فالتفتت إحدى المعلمات نحو فوفو التي كانت ممدة في سريرها مذعورة بعض الشيء صامتة. ما اسمك يا حبيبتي؟ فلم تجب فوفو إلاّ أنها قالت بانفعال شديد: أريد ماما. ولكن المعلمتان أظهرتا شهادتها واسمها الكامل وعلاماتها. فاطّلعت الجدة باندهاش، فهاهو ذا إسم ولدها أمين يعقب إسم رهف، فسمّرت عينيها بصمت على الإسم المطبوع، مُغلقةً فمها بإحدى يديها، وقالت بعد برهة: رهف؟؟ ناظرة إلى حفيدتها فقالت إحدى المعلمات: هل نحن مخطئتان؟ أجابتها الجدّة بعد تنهيدة عميقة: لا يا ابنتي أنا المخطئة.