المنحرفون

حيدر الحدراوي

[email protected]

فرغ مرهج من صلاته , التفت نحو شايع , فوجده ماسكا لحيته , شارد الذهن , غارق في تفكير عميق , فقاطع تأمله :

مرهج : خيرا .. بمّ تفكر ؟ ! .

انتبه شايع واجاب :

-         لقد كنت افكر ! .

-         بماذا كنت تفكر ؟ .. لم اعتد منك تفكر في شيء لوحدك .. طالما اشركتني في كل افكارك وارائك ... الخ .

-         كنت افكر .. اننا امضينا عمرا طويلا في العبادة .. ولم ننحرف يوما عن طريق الهداية .. حتى تقدم بنا العمر .. وابيضّ شعري وشعرك .

-         نعم .. وما العيب في ذلك ! .

-         لا عيب في ذلك ...

-         اذا ؟ .

-         كنت اتسائل .. لماذا لا ننحرف شهرا واحدا على الاقل ؟ ! .

-         اعوذ بالله .. انه الشيطان ينطق على لسانك .

-         فكر مليّا .. ننحرف شهرا .. ثم نعود لما نحن عليه .

لم يمضي وقتا طويلا , حتى اقتنع مرهج واستحسن الفكرة , لكنه اعترض على المدة , فجعلها اسبوعا واحدا فقط  :

-         اسبوعا واحدا فقط .

-         حسنا .. لكن يجب ان نسافر الى بلد ليس لنا فيه معارف ! .

-         بلد عربي .. فنحن لا نعرف سوى اللغة العربية .

-         مصر ..

-         لا .. عندي معارف هناك .

-         سوريا . 

-         لا .. ليس لدينا معارف في لبنان ! . 

-         اذا الى لبنان ! .

حزما امتعتهما , وودعا الاهل والاحبة , واخبرا الجميع انهما ذاهبان الى لبنان لطبع كتابا ما .

                           ****************************

امضيا ليلتهما في فندق , وفي الصباح , استأجرا سيارة اجرة , فكلم شايع السائق .

-         خذنا الى اقرب مكان فيه انحراف ! .

-         حسنا ... تفضلا ! .

انطلقت سيارة الاجرة تجوب المدينة , تخرج من شارع لتدخل في اخر , فحدق شايع في مرهج , وسأله :

-         كيف هو شعورك وانت منحرف ؟ .

-         جميل ... الانحراف يمدني بالطاقة .. فأشعر ان الشباب عاد ليّ بعد غياب طويل .

-         ما اجمل ان يكون المرء منحرفا ! .

-         بل ما اجمل الانحراف ! .   

توقفت سيارة الاجرة في طابور طويل للسيارات , فقد كان هناك حادث تصادم , مما اضطر سائقي السيارات الى التحلي بالصبر , ريثما يصل الانقاذ لفتح الشارع , فسأل شايع السائق :

-         ما الامر ؟ .

-         ومن غيرهم ؟ .

-         من تقصد ؟ .

-         حزب الله ! .

-         ما بهم ؟ .

-         يقطعون الشارع بحثا عن المنحرفين ! .

نظر كلاهما في وجه الاخر , اصفرت الوجوه , وارتعشت الفرائص , فقررا الترجل من السيارة , وعادا الى الفندق هاربين , خائفين , يلومان السائق , كونه ارتاد طريقا يتواجد فيه حزب الله .

                      *************************

في اليوم التالي , اوقفا سيارة اجرة , وطلب مرهج من السائق ان يقلهما الى اقرب مكان فيه انحراف , وان يتجنب المرور في اماكن يتواجد فيها حزب الله , رحب بهما السائق , ركبا وانطلقت السيارة .

ما ان ركنت سيارة الاجرة في مكان ما , حتى ملئ الافاق صوت ازيز الطيارات الحربية الاسرائيلية , وشرعت بقصف عدة مناطق , فلاذ الناس بالفرار , كل يبحث عن ملجأ , او مأوى حتى انتهاء الغارة , فلاذا بالفرار , وعادا الى الفندق .

                      ************************ 

في اليوم الثالث , طلبا من احد نزلاء الفندق ان يرشدهما الى مكان في انحراف , فرحب بهما كثيرا , واصطحبهما في سيارته الى مكان خارج المدينة , جلسا في مرج من المروج الجميلة , استند مرهج على شجرة , بينما استلقى شايع على الارض , ثم طلب منهما الرجل مبلغا من المال , كي يحضر لهما لوازم الانحراف , دفعا له , وانصرف الرجل .

-         ما اجمل الانحراف ! .

-         ما احلاه ! .

-         ما اجمل ان يكون المرء منحرفا ! .

-         يا لروعة الانحراف ! . 

غابت الشمس , ولم يعد الرجل , فأدركا انها كانت خدعة , فعادا الى الفندق .

                     ****************************

في اليوم الرابع , قصدا مكانا عاما , فيه كثير من الناس من مختلف الاعمار والاجناس , جالا النظر هنا وهناك , حتى سأل مرهج شايع :

-         كيف يكون الانحراف ؟ ! .

-         لا اعرف .. لكننا سنتعلم بسرعة . 

جلسا على طاولة فارغة , فأسرع النادل نحوهما .

-         ماذا تطلبان ؟ .

-         انحراف ! .

استغرب النادل من الطلب .

-         هل انتما متأكدان انكما تريدان انحرافا ؟ ! .

-         نعم ... نعم .

ذهب النادل , وعاد بصحبه رجلان مفتولي العضلات , يحمل كل منهما عصا غليظة , وقال لهما :

-         اما الانصراف ... او لدينا اسلوبا عجاف ! .

لاذا بالفرار , سارا في الشوارع , حتى وقع نظرهما على فتاة ترتدي ملابس عصرية , تتمايل في مشيتها , تتغنج , رمق شايع مرهج بنظرة غريبة وقال :

-         هذه منحرفة ! .

-         كيف عرفت ؟ .

-         انظر ! ... انها تنحرف في مشيتها ! . 

اسرعا نحوها , قطعا عليها الطريق , وسألها مرهج :

-         هل انت منحرفة ؟ .

احمر وجه الفتاة خجلا , واستشاطت غضبا , فصرخت بصوت مسموع , طالبتا النجدة من دورية شرطة كانت في الجوار , فألقوا القبض عليهما , واودعوهما السجن .

امضيا يومهما في السجن , واطلق سراحهما في الليل , فعادا الى الفندق .

                         ************************

في اليوم الخامس ,  ذهبا للقاء صديقا تعرفا عليه في السجن , وعدهما ان يصطحبهما الى مكان منحرف , كان من المقرر ان يطلق سراحه اليوم , التقيا به , واصطحبهما الى الشاطئ , انبهرا بما شاهدا , حيث الناس يرتدون ملابس السباحة , يتجول البعض هنا وهناك , واخرين مستلقين تحت اشعة الشمس , وغيرهم قد دخل البحر , فأشار لهما الى مكان مرتفع منحرف بزاوية حادة , وقفا في اعلى المكان , استرقا النظر هنا وهناك , فقال لهما :

-         انتما الان في قمة الانحراف ! .

 نظر مرهج في وجه شايع , وقال له :

-         ما اروع الانحراف ! .

-         بل ما اجمل ان يكون المرء في قمة الانحراف ! .  

طلب منهما الرجل ان يخلعا ثيابهما , اسوة برواد المكان , فخلعا ما عليهما من ثياب , ثم ذهب الرجل لجلب المزيد من لوازم الانحراف , كما اخبرهما بذلك , في غضون ذلك , قصد الرجل دورية الشرطة , واخبرهما بأن مجنونين هاربين من مستشفى المجانين , قد يشكلان خطرا على الناس هناك , تحركت الدورية على الفور , والقوا القبض عليهما , وارسلوهما الى مستشفى المجانين .

                           *********************

في اليوم السادس , تجولا في الشوارع كثيرا , حتى وقع بصرهما على شاب يرتدي ملابس عصرية , وقد سرح شعره بأحدث التسريحات , يترنح في مشيته , كسكران من غير خمر , يتغنج كفتاة , يتكلم في نقاله بصوت مثير للاشمئزاز , كأنما قد خلع ذكوريته , واستبدلها بجنس اخر , فقال شايع لمرهج :

-         هذا منحرف ! .

-         وكيف عرفت ؟ .

-         الا ترى جسده لا يكاد ان يستقيم ! .

-         اذا ! .

-         لابد وانه ذاهب الى مكان منحرف  .

-         فلنراقبه ونسير خلفه بروية .

تعقباه بشكل ملفت للنظر , حتى شعر بهما , فأنتابه القلق من امرهما , حاول تضليلهما , فلم يفلح , ارتعدت فرائصه من الرعب , ولم يكد يتمكن من اخفاء ارتعاش عضلات جسده , فتوقف في زاوية ما , ليفكر مليا بما سيفعل , فنظر شايع لمرهج ابتسم وقال :

-         انظر اليه لقد ازداد انحرافا ! .

-         اخيرا ... وجدنا ضالتنا ! .

اثناء ذلك , القت امرأة جردل ماء من فوق البناية , فسقط عليهما , وانشغلا به , فأنتهز الشاب الفرصة , واطلق ساقيه للريح ! .   

                         *********************

في اليوم السابع , جلسا في مقهى , يراقبان الجالسين , يختلسان النظر هنا وهناك , حتى جذبا انتباه صاحب المقهى العجوز , فجلس معهما في الطاولة , ثم فتح حوارا معهما :

-         كأنكما غريبان في هذا البلد ؟

-         نعم .

-         اتبحثان عن شيء ؟ .

-         نعم .

-         اخبراني لعلي استطيع مساعدتكما ! .

فأجاباه بصوت خافت : ( نبحث عن مكان فيه انحراف ! ) , استغرب الرجل وقطب حاجبيه , استشاط غضبا , لكنه تمالك نفسه , فبادرهما بحكمة : 

-         لا يبدو عليكما الانحراف ... بل تبدو عليكما سيماء الصالحين ! .

-         نعم هو كذلك .. وقد قررنا الانحراف قليلا .

اندهش الرجل من فكرتهما :

-         فأتيتما الى لبنان لهذا الغرض ! .

-         نعم .

-         حسنا ... رافقاني ! . 

مضيا برفقة الرجل العجوز , حتى وصلوا الى بيت ما , ادار المفتاح في الباب , فتحه ودخلوا جميعا , طلب منهما الجلوس على الاريكة , واعد لهما اقداح الشاي , جلس الرجل العجوز بتململ , وانفجر غضبه :

-         الا تخجلان من نفسيكما ... ابعد هذا العمر تطلبان الانحراف ... أخرفتما ام لعب الشيطان بعقولكما ...

عنفهما ووبخهما كثيرا , حتى قررا ان يعودا الى الوطن , بعد انتهاء الايام السبعة .  

                        *********************

انتهت ايام الانحراف السبعة , وعادا الى الوطن , بينما هما جالسين في الحافلة , فكر شايع :

-         لم نوفق للانحراف الصحيح ! ... ولم ننحرف كما ينبغي ! . 

ابتسم مرهج وقال معللا ذلك :

-         تمسكنا بالطريق المستقيم مدة طويلة ..... عصمتنا من الانحراف .