النملة والرئيس ...!!!

النملة والرئيس ...!!!

طه أبو حسين

كانت عساكر النمل تسير بانتظام روح الفريق الواحد ، ثلاثة طوابير متساوية متقاربة ، تحمل بضع حبيبات من القمح والشعير ، وقليلا من القشّ وما لا أدري ماهيته .

قائدهم لم يكن يحمل في يده سيفا أو بندقية ولا حتى قشّة يضرب بها الرعيّة كما حالنا البشر ، فقط كان يحمل في رأسه الصغير عقلا كبيرا يسيّر فيه جندا عظيما .

أثارني انتظامهم ، جدّيتهم ، مرونتهم ، في الالتفاف على كلّ المصاعب دون أن ينكسر الصفّ أو يبتعد عن الآخر .

لم أشاهد في طريقهم اشارة مرور ، ولا ضابطة جمركية ، ولا حتى قوات شرطة أمنية ، قد يكون هناك مخابرات قد اختبئت هنا وهناك لكني لم أرهم في الساحة بتاتا .

قلت في خاطري سأمزق صفّهم لأرى ردّة فعلهم ، فأنا من البشر ، والبشر بطبيعتهم فضوليون عبثيّون ، لا يحبّون مركبا سائرا دون اعتراض طريقه ومعرفة وجهته وقصده .

العصا وضعتها أمامهم ، واحدة اثنتان ثلاثة ارتطموا ثم سرعان ما وجدّوا الحلّ والتفوا حولها دون أن يكون هناك توقفا لانتظام طريقهم .

ضحكت قليلا ، وقلت لنرى من منّا أكثر صبرا .؟! فرحت فاحرا حفرة كبيرة أمام هؤلاء الصغار لتكون محطة نهايتهم .

تخبّطوا قليلا ، فمنهم من نزل الحفرة ومنهم من صعد العصا وآخرون توزّعوا حول الحفرة كما لو أنهم كتائب تسير كلّ واحدة على حدا .

في أقل من دقيقة كانت الكتائب التي نزلت الحفرة وصعدت العصا تعود أدراجها لتلتف احداها حول الحفرة من اليمين والأخرى من اليسار ، ملتقيتان في درب واحد وللانتظام الذي رأيتهم فيه أول مرة .

هنا شعرت بالتحدي ، وأقسمت أن أبعثر جمعهم ، فنظرت حولي لأجد غضن زيتون ما زالت عروقه حيّة وإن كان ظاهره ميّت .

أخذت الغصن بيميني وبدأت أحركه يمينا ويسارا ، فتلك نملة طارت وتلك سقطت وأخرى على الغصن علقت ، لتبيت صفوفهم المنظمة كساعة النفير لا تميّز احداها أين الفرار من المصير .

تغطت الأرض ، وصارت ملئية بالصغار ، يمينا يسارا ، أماما خلفا ، وحتى زوايا متعاكسة كانت اتجاهاتم ، يا السخرية ، لقد ضحكت لحظتها قائلا : أنتم صغار رغم كثرتكم ، وأنا كبير أفعل ما أريد بكم ، أبطش ، أقتل ، أعرقل ، أمزق ، أحرق وكلّ كلّ ما أريد ، وأنتم تحت رحمتي قابعين " .

ما هي إلا لحظات قليلة حتى تلاشت تلك الجنود المبعثرة ، وكأن ساعة الحساب انتهت ، دخل الجنة من دخل ورحل للنار من رحل ، هكذا بدت لي الصورة في البداية .

الغرور أعمى عيوني ، وعلى التراب فرشت جسدي لأحتفي بنشوة الانتصار ، فمن حولي قتلى وجرحى والمشردين أكثر من الأعداد لا تحصيهم إلا نجوم السماء التي لا قدرة لنا على عدّها .

وبينما كنت على عرش الانتصار ، حتى شعرت بوخزة قوية في رقبتي ، فلطمت رقبتي وما عليها لأردي تلك النملة قتيلة ورقبتي علامة الأصابع الخمس عليها تجسدت .

أيتها اللعينة ، تريدي قرصي ، هذا مصير من يحاول التمادي على سادته ، وأثناء عتابي وسخريتي بها شعرت بوخزتين اثنتين في قدماي ، ضربت الآولى والثانية ألحقتها فرميتهما الاثنتان قتيلتان .

قلت اللعنة ، الصغار يتمادون ، لكن الغريب أن تلك الجيوش التي مزقتها اختفت إلا قليلا ، فرحت غاطسا في غفوة أخرى لأحلم بانتصاري .

ما ان استفقت على نفسي حتى كان ذلك الجيش المنظم تنتظم صفوفه على جسدي ، كل كتيبة كانت قد تولّت حيّزا من جسدي ، منها من تسلم زمام أمر وجهي ، وأخرى صدري ، والبعض قدماي ويداي ، وقواتها الخاصة تقتحم أذناي وبعضها تعارك عيناي ، لأسقط تحت انتظام تلك الجيوش التي ظننت أنها قد تعبثرت حينما مزقت صفوفها بالغصن الأخضر .