المجنون والمومس

ناديا مظفر سلطان

ذلك الصباح بالذات استولى عليها شعور ثقيل بالكآبة والسأم والكراهية ، لكل شيء حولها .

  تفاقم شعورها ،مع مرور الوقت ، كحشرة حيرى تهيم بين النافذة والمرآة .

لقد سئمت الوقوف عند النافذة الشرقية ، تتسلى بمراقبة المجانين في نزهتهم الصباحية في المشفى المقابل ، كما كرهت صورتها في المرآة وراعها – خاصة ذاك الصباح – تجاعيد غزت العنق ، وأثقلت الأجفان ، وزحفت إلى الشفاه والوجنات.

شهر لم يطرق بابها رجل ، بعد أن كان خيرة الرجال ، يتسابقون إليها ،في الماضي . أما اليوم فقد أفل نجمها وضاعت هيبتها مع زحف السنين ، التي بددت الصبا وأذبلت الجمال.

همست بحقد ، أكلوني لحما ، ولفظوني عظما ، لابد أن أستعيد مكانتي يوما ، وعندها سترون ما أنا فاعلة بكم ، أيها الأوغاد.

عادت تتسكع من جديد أمام النافذة الجنوبية ، فمنها فقط تستطيع أن تلمح نافذته ، في الأعلى .

 خفق قلبها إذ لمحت طرف الستارة تتلاعب بها أنسام الصباح .

لقد استيقظ !، همست لنفسها بحبور ، لقد استيقظ مبكرا مع أن اليوم جمعة ، وقد يطل من النافذة فأراه. ازداد قلبها وجيبا . فقد حفظت عن ظهر قلب مواعيد نومه واستيقاظه ، وغدوه ورواحه إلى معهده ، منذ أن سكن غرفة السطح ، حيث خزانات المياه .

 ترى ، هل استيقظ ؟. ليس هذا من عادته ، فاليوم عطلة .

 عادت تتساءل .  لقد شغفها حبا منذ أن وقعت عيناها عليه ، عشقت منذ اللحظة الأولى ، العسل المنساب من عينيه الواسعتين القويتين ، وسحرت بالجلال الفتي  في لحيته الخفيفة السوداء ،  واحترقت جوارحها شوقا لجسده الرياضي الممشوق ، الذي يتفجر بالفتوة والشباب .

كانت تصادفه أحيانا وهي تودع إحدى زبائنها ، عندما يكون في طريقه لأداء صلاة الفجر ، فيكفهر وجهه اشمئزازا ويطرق مهرولا  دون أن يرد التحية .

تناهى إلى سمعها صفارات إنذار ، وصرخات مدوية ، وجلبة عالية ، فهرعت إلى النافذة الشرقية

كان حارس المشفى ممددا على الأرض ، غارقا في بركة من الدماء ،  بينما  تعالت الصيحات ،

 لقد هرب ، صاح رجل.

لقد رأيته يهرب من هنا ، أمسكوه ،  صاح رجل آخر .

لقد سرق بلطة الجنائني وهرب بها ... إنه خطير ... لابد من إمساكه ... قبل ان يقترف جريمة أخرى ، صاح الممرض بنبرات متقطعة أرهقها الذعر .

سمعتْ وقع أقدام على السلم ، ومن العين السحرية لدى الباب استطاعت  أن تراه ، كان المجنون يجلس على إحدى الدرجات وهو لا يزال ممسكا بالبلطة وهي مضرجة بالدماء .

مرت لحظات قبل أن يخطر ببالها فكرة لا تقل جنونا عن جنون ذاك المعتوه الجالس على عتبة دارها.

سارعت إلى حيث خبأت سلاحا ناريا ،كان قد أهداها إياه  رئيس الدرك (كعربون لحبه الأبدي !) ، فأخفته تحت ثوبها ،

حدثت نفسها ، إن هاجمني أصرعه ولن يلومني في قتله أحد ، وإن استسلم لمشيئتي ، فسوف أظفر عن طريقه بما أريد .

فتحت الباب على مصراعيه ، طالعها بنظرات زائغة ، اكتسى وجهه بالدهشة ، وهي تدعوه للدخول ، ثم ما لبث أن غشيته فجأة ملامح وديعة  أقرب منها للبلاهة .

- لا تخف سوف أدافع عنك  ولن يجرؤ أحد على أن يمسك بسوء وأنت في حمايتي ، ولكن عليك أن تطيعني وإلا ...

لم تكمل عبارتها حتى انهالت الطرقات على الباب كان رئيس الدرك  ، يقف محاطا بأعوانه ،

لقد فر مجنون من المشفى المقابل  ، بعد أن قتل الحارس ،هل صدف أن رأيته؟

ردت ببرود : لا، وكيف لي ان أراه ، وأنت كما تصفه مجنون وقاتل؟

ولكن ، استطرد رئيس الدرك ، ولكن آثار الدماء توقفت عند بابك ؟!

ردت ببرود مضاعف ، حقا ؟

سيدتي في هذه الحال  لابد من تفتيش الشقة ، أجابها الرجل بحزم.

لن أسمح بذلك أبدا ، وإن فعلت فسوف تعثر على صور لك  قد لا يسرك العثور عليها .

أجابت المرأة وهي تحدق بوجهه ، وقد تملكتها نشوة الانتقام.

صعق الرجل ، توقف للحظات ثم انسحب مع أعوانه بصمت.

في الصباح عثر المارة على جثة أخرى قرب دار المومس ،  بلطة شقت رأس الضحية إلى نصفين

ساد الذعر والغضب أرجاء البلدة ، وقرر زعماؤها عقد اجتماع عاجل للتشاور ، بشأن المومس والمجنون

وفعلا حضر الاجتماع كبراء القوم ،ونخبة رفيعة من التجار ، كما انضم شيخ البلدة "ذو العمامة السوداء" إليهم ، كان قد تسرب إليهم نبأ الصور التي بحوزة المومس . فساد التوتر الجلسة ، فشجب بعضهم أفعال المجنون ، وندد بها البعض الآخر ، ثم انفض الجمع وقد اتفقوا  على أن المجنون بأمس الحاجة للرعاية الصحية ، وأن من واجبهم إقناع المومس بتقديم العون له ،كما أفتى شيخ البلدة ، أنه لا غضاضة "شرعاً"   في مكوثه عندها ، فقد يكون زوجها  !.

تتالت جرائم المجنون ، بل تفاقمت وازدادت شناعة  حتى كان يوما شعرت فيه المومس فعلا بالاشمئزاز منه وبدأت تفكر بالورطة التي أقحمت فيها نفسها ،  فزاد شعورها بالأسى .

عصف في قلبها فجأة شوق جامح للطالب ساكن السطح ، فخطر لها أن تصعد إليه ، ترددت ليقينها أنه يحتقرها ويكرهها ... ولكنه فقير بل معدم وهي موسرة ، ولازالت مرغوبة ... إنها شقراء ، والرجال  يعشقون الشقراوات مهما تقدمت بهن السن !.

نهضت بسرعة محمومة إلى دولابها ، فعثرت على ثوب أحمر يزينه ريش على الصدر والأكمام ، تذكرت أول مرة ارتدته كانت عندما عقد عليها شيخ البلدة  في "زواج سري " ينقصه الشهود والإعلان !.هكذا أفتى لها ، وهي تستسلم له .

حشرت جسدها المترهل في الثوب ، ثم عمدت إلى طاولة الزينة فأفاضت على وجهها من المساحيق وبالغت في طلاء شفتيها بأحمر الشفاه ، ولم تنس أن تسكب العطر على يديها وعنقها ،  أطفأت الأنوار في الشقة كلها حتى يظن المجنون أنها قد أخلدت للنوم ، ثم انطلقت إلى السطح لا تلوي على شيء.

قرعت الباب ، وما إن فُتح حتى اقتحمت على الطالب غرفته ، كان الشوق قد أخذ بلبها ، فارتمت على قدميه وهي تتوسل إليه أن يرحم قلبها المتيم  بالغرام  .

في عتمة المدخل كان المجنون واقفا ، يحمل شمعة مضاءة بيد ، والبلطة بيد أخرى ، تساءل  مشدوها

كنت أظن أنك تحبيني!

استبد بها غضب أعمى  فصاحت به : أيها الشقي أغرب عن وجهي  وإلا ..

رفع المجنون البلطة كي ينهال بها على رأسها ، فعاجلته بطلقة نارية أردته صريعا .

سقطت الشمعة من يده فسرت النار إلى ريش ثوبها  ، لم تفلح محاولات الفتى لإنقاذها ،  وسرعان ما تصاعدت ألسنة اللهب تلتهم المكان .

 اختطف الفتى بلطة المجنون وانطلق بخفة يتسلق السلم الحديدي انهال بالبلطة على خزان الماء فانهمر الماء وأخمد الحريق.

كانت المومس تئن من حروقها ، وقد تشوه جسدها بالكامل.

تعالى نداء المؤذن الله أكبر ، الله أكبر .

جال الطالب ببصره أركان الغرفة المحترقة والغارقة بالمياه ، تمتم يحدث نفسه : لا بأس سأعيد ها أفضل مما كانت ، المهم أن أسرع الآن كي لا تفوتني صلاة الفجر.