"شجرة الزيتون"
"شجرة الزيتون"
ناديا مظفر سلطان
دست له الشطيرة في كيس من القماش .
هذه آخر قطرة من الزيت وضعتها لك في الشطيرة ، لا بد أن تذهب وتقطف ثمار الزيتون من شجرة التل ، لا تنس أن تملأ السلة يا ولدي . هتفت أم أحمد .
تغضن وجهه تأففا ، ثم أجاب بغضب : ولكنني لا أقوى على حملها يا أمي .
هذا يوفر عليك عناء رحلة أخرى ، أجابت أم أحمد بحزم ، وهي تدفع إلى ابنها بالسلة .
لا تنس أنك الآن رجل العائلة بعد وفاة أبيك ، وبعد أن أتت العاصفة على القرية ، فأهلكت الرجال والزرع والدواب ، لم يبق لدينا سوى شجرة الزيتون ، نقتات منها نحن وجارتنا أم إلياس.
أضاء وجهها فجأة إذ فطنت ، فهتفت به مستدركة : لعلك تصادف إلياس فيرافقك ، وتهون عليك الرحلة إلى شجرة الزيتون .
ازداد وجه الغلام تجهما : إلياس ؟!...إلياس ، ليس صديقي ،إنه لا يحبني ، بل إنني لأجزم أنه يكرهني.
بعد العاصفة لم يبق لدينا من جوار سوى أم إلياس وابنها ، ولم يبق لدينا من زاد سوى شجرة الزيتون . علينا أن نحسن الجوار إليهما ، وأن نقتسم ثمار الشجرة معهما ، كي نبقى على قيد الحياة وإلا هلكنا جميعا وذهبت أجسامنا طعاما لوحوش الغابة .
لم يبد على أحمد أنه كان يفقه حرفا من الدرس الذي أتحفته به أمه وهو يغادر المنزل .
كان غاضبا وجائعا ، كما أخذ البرد يتسلل إلى قدميه من فتحة حذائه المهترئ ، وهو يجد السير نحو الشجرة . تذكر آخر مرة أكل فيها لحما كان ذلك منذ عامين ، عندما نحر أباه شاة ، و قدد لحمها .
قبل وفاته بيوم واحد فقط ، صنع له شطيرة باللحم تقطر إداما .
سال لعابه ، وأخذ الجوع ينهش أحشاءه ، فجلس يستريح ، وأخرج شطيرة أمه ، زادت رائحة الزيت من ضراوة الجوع في جوفه ، فازداد حنقا ، وهمّ ان يلقي بالشطيرة بعيدا ، عندما تناهى إلى سمعه حفيفا خافتا ، وصوت تهشم أوراق الشجر ، توقع أن يكون وحشا من وحوش الغابة ، فوجف قلبه .
صدق ظن أمه عندما برز إلياس من الطريق الجانبية ، كان الغلام هو الآخر يحمل سلة كبيرة وعصا غليظة كي يضرب بها الأغصان ، فيجني ثمار الزيتون بسرعة .
سرى شيء من الاطمئنان إلى قلب أحمد لمرأى إلياس ، فسار الاثنان معا... ولكن على مضض .
بعد مسيرة ساعة بزغت الشجرة في قمة التل ، مغضنة الجذع ، عتيدة الحضور ، عريقة الأصول .
شرع الغلامان في ملئ السلال بثمار الزيتون ،كان أحمد يصغر صاحبه سنا ، ولكنه كان أقوى بنية ، فما لبث أن ملأ سلته واستعد كي يقفل عائدا إلى داره .
شعر إلياس بالإحباط ، وسلته لما تمتلئ بعد ، فطلب إلى أحمد أن يساعده ، فأبى .
احتدم الجدال بين الغلامين ، ثم ما لبث أن استحال إلى عراك شرس . تبادل الاثنان اللكمات ، ثم انطرحا أرضا ، جثم أحمد فوق صدر صاحبه ، وهو يكيل له اللكمات . كان إلياس لا يزال قابضا على عصاه ، فهوى بها على رأس أحمد فشجه ، وسقط هذا الأخير مغشيا عليه.
نهض إلياس مذعورا ظنا منه أن أحمدا قد قضى نحبه ، فأجهش في بكاء مرير وأخذ يصرخ مناديا إياه بأعلى صوته .
أنهكه الصراخ ، والعراك ، والبكاء ، وطول الرحلة من قبل ، فاستلقى على الأرض قرب صاحبه ، و استغرق في سبات عميق.
عندما استيقظ الغلامان كان المكان غارقا في عتمة حالكة . ملأت الفرحة قلب إلياس بنجاة صديقه ولكن ما لبث ان دب الفزع في قلبيهما ، فأنساهما ما كانا فيه من عراك .
أيقن الاثنان معا باستحالة العودة إلى الدار ، وكان الأسلم لهما أن يبقيا في كنف "شجرة الزيتون "
جلسا متلاصقين وأخذ عواء الذئاب وبنات آوى يتناهى إلى سمعهما ، كما لاحت على مقربة منهما أحداق تشع بوميض أصفر .
هتف أحمد : يجب أن نوقد نارا على الفور ، معي بعض أعواد الثقاب ولكن لا تكفي كي نوقد نارا .
دفع إلياس إليه بسلته : يمكنك أن تشعلها ولكنها لن تصمد الليل بطوله .
إذن نضرم النار بالسلة أولا ، ثم نوقد الجفت ، أجابه أحمد .
عمد الغلامان إلى سحق ثمار الزيتون ببعض الأحجار ، و نثرها كدائرة حول الشجرة بقطر بضعة أمتار ، ثم أضرموا بها النار
شاع الدفء والنور والأمان في المكان ، فأخرج أحمد شطيرة الزيت ، واقتسمها مع صديقه.
أكل الاثنان بشهية عظيمة ، تذكر أحمد كم كان أحمقا عندما تعالى على الشطيرة وكاد أن يفرط بها
فتمتم بامتنان : الحمد لله
هز إلياس رأسه مجيبا : حقا الحمد لله .
اعتصم الاثنان بجذع "شجرة الزيتون " ، وقد عانق أحدهما الآخر ، همس أحمد قبل أن يتسلل النوم إلى أجفانه : لقد فرطت بسلتك ، عندما نعود إلى الدار غدا ، سوف نقتسم ثمار سلتي ...ولن نختصم أبدا بعد اليوم .
أجاب إلياس : أبدا .
تباعد عواء الذئاب وبنات آوى ، ولم يعد يسمع سوى أنفاس الغلامين تتردد في سلام .
لم تخمد نار الجفت أبدا ، فالتقى نورها مع ضياء شمس الصباح ، فكان نور على نور.