الشبح

حيدر الحدراوي

[email protected]

بينما كان طحيور يغط في نوم عميق , استيقظ  على صوت ناي جميل , نهض من الفراش , والقى نظرة من الشباك , فامعن النظر في الحديقة , فرأى شبحا ابيض , يجلس على السياج , يعزف بحماس , اقترب طحيور من الشبح , وقال له :

-         هيه انت ! ...... ماذا تفعل ؟ .

نظر الشبح اليه , ابتسم ابتسامة تنم عن خبث النية , وقال له :

-         كما تسمع وترى ! .... اني اعزف .

اجال طحيور النظر في الحديقة , ثم رمق السماء بنظرة سريعة , ونظر الى الشبح وقال :

-         لمن تعزف في مثل هذا الوقت المتاخر من الليل ؟ .

-         لك ولكل من يحب ان يسمع معزوفاتي .

-         اذا اعزف لي مقطعا اخر ! .

-         حسنا .

بينما كان الشبح يعزف بلحن اخر , اقترب طحيور منه كثيرا , ثم غرس يده الصغيرة في عين الشبح بشكل مفاجئ وسريع , فاخذ الشبح يصرخ من الالم , ويتخبط في الحديقة , تارة يصطدم بالاشجار , وتارة يصطدم بالسياج , ثم اختفى وتلاشى وكأن شيئا لم يكن .

                           **************************

في الليلة التالية , كان طحيور يستسلم لنوم عميق , فسمع صوت ناي حزين , فنهض من الفراش مسرعا نحو الشباك , فشاهد الشبح الابيض يجلس في نفس المكان , وكان قد وضع قماشا اسود على احدى عينيه ,  ذهب اليه , وحاول ان يعتذر عما بدر منه في الليلة الماضية , فأظهر الشبح قبول الاعتذار , وطلب من طحيور ان يذهب معه الى مكان جميل , فيه العاب جميلة للاولاد , تظاهر طحيور بالقبول , فأقترب الشبح منه , واخذ بيده وسارا عدة خطوات , فبادره طحيور بضربة خاطفة , غرس يده في عين الشبح الاخرى , فأخذ يصرخ ويسب ويشتم ويتوعد طحيور , واختفى , غير ان طحيور لم يبالي بتهديدات ذلك الشبح .

                       ****************************

هناك وفي مكان مجهول , شكا الشبح الابيض لملك القبيلة , واخبره بما جرى له مع طحيور  , فاستشاط ملك القبيلة خرطنطبوش غضبا , وقرر ان يحاكم طحيور على فعلته امام محكمة القبيلة , فدعا قضاة ووجهاء القبيلة , وسرد عليهم الخبر , فقرروا ان يحضر طحيور الى المجلس , فتوجه الملك خرطنطبوش الى العفريت خملطبيش , وكان من عفاريت القبيلة الاشداء , وامره ان يجلب طحيور الى المجلس فورا , كان العفريت خملطبيش من عمالقة العفاريت , ويتمتع بقوة هائلة على الطيران , فسارع الى تنفيذ امر الملك , حتى وصل الى بيت طحيور , فهبط في الحديقة , هاجت الاشجار وماجت من شدة هبوطه , فنظر في الشباك , وجد طحيور نائما على سريره , فتذكر العفريت خملطبيش عندما كان صغيرا , يرقد في الفراش امنا , وتقوم امه العفريته شوكارينوخ بتغطيته جيدا , ثم تذهب هي الى الفراش , وفي تلك الليلة , جاء احد العفاريت المتمردة وخطفه , وحرمه من عطف امه وحنانها , حيث ارسلوه الى التدريب على كافة انواع القتال , فظن ان التاريخ يعيد نفسه , وانه لو خطف طحيور فسوف تحزن امه عليه حزننا شديد , ثم انهم سوف يقلعون عينيه , وهو لا يزال طفلا صغيرا , فقرر ان لا يخطفه , وان يعود خالي الوفاض , وليحدث ما يحدث .

عاد العفريت خملطبيش الى المجلس , واعتذر من عدم استطاعته على جلب طحيور بأعذار كثيرة , لعلهم يعفوه من هذه المهمة , فغضب الملك عليه غضبا شديدا , وقال له :

- اغرب عن وجهي ! ...

ثم التفت الى الحاجب وقال له :

- اجلبوا العفريت صنكركون ! .

عندما سمع العفريت خملطبــيش بأسم هذا العفريت الجبار , فكر ان ينقذ طحيور من هذه الورطة , فاسرع الى بيته , فوجده لا يزال نائما , فتح الشباك بعناية تامة , وتحول الى طفل يشبه طحيور , طولا وعرضا , وحمل طحيور وارقده تحت السرير , بينما استلقى العفريت خملطبيش فوق السرير , فبينما هو كذلك , احس بدفئ الفراش الوثير , وغط في نوم عميق , في غضون ذلك استيقظ طحيور , فوجد نفسه نائما تحت السرير , نهض على قدميه , وهو يفرك عينيه , فرأى شخصا يشبه نائما في مكانه , حاول ان يحمله , فلم يتمكن , فدحرجه حتى القاه من السرير , واستمر بدحرجته حتى ادخله تحت السرير , واستلقى هو في مكانه , وغط بنوم عميق .

وصل العفريت صنكركون , رمق طحيور بنظرة حاقدة , فالقى عليه مسحوق منوم سحري , كي لا يستيقظ اثناء الطيران في الهواء , ثم لفه بلفاف ابيض , حمله وانطلق به بعيدا .

في الصباح , استيقظ  العفريت خملطبــيش , فوجد نفسه بهيئة طحيور , واخذ يفتش عنه في كل مكان في الغرفة , فلم يجده , اثناء ذلك , سمع صوت ام طحيور تناديه ان يستيقظ , ويتناول الفطور كي يذهب الى المدرسة , فقال العفريت خملطبــيش ( لو علمت ام طحيور ان طحيور قد فقد , فسوف تحزن حزنا عميقا , فلابد لي ان اتقمص شخصيته , ريثما استطيع ان اخلصه من قبضه القبيلة , لكن ... يجب عليّ الذهاب الى المدرسة , اوووووه لا احب المدرسة !) , فارتدى بعضا من ملابس طحيور , وتناول الفطور , وذهب الى المدرسة .

لاحظت الام تغيرات في تصرفات طحيور , لكنها لم تاخذها محمل الجد , سار العفريت خملطبــيش بين الشوارع , قاصدا المدرسة , حتى دخل الصف , فجلس في مكان فارغ , بينما كانت المعلمة تعلمهم ان ينشدوا ( يا اطفال يا اولاد اشربوا الحليب .... للصحة للقوة اسألوا الطبيب ) , كررت ذلك عدة مرات , والتلاميذ يرددون معها عدا طحيور , فطلبت من الجميع السكوت , وتوجهت نحو طحيور الذي كان يجلس متململا وقالت له ان يعيد ما سمعه منها ومن التلاميذ , فنهض طحيور واقفا وقال بدون تردد ( يا اولاد يا اطفال اشربوا الطبيب .... للصحة للقوة اسألوا الحليب ) , ارتسمت علامات التعجب على وجهة المعلمة , فهذه اول مرة كان طحيور يحفظ النشيد بطلاقة , لكنه استبدل الحليب بالطبيب , وقالت له :

-         احسنت يا طحيور ! ... هذه اول مرة تحفظ بشكل جيد ... لكنك يجب ان تستبدل الحليب بالطبيب والطبيب بالحليب ... هيا اعد ذلك ! .

-         يا اولاد يا اطفال اشربوا الطبيب الحليبي .... للصحة للقوة اسألوا الحليب الطبيبي !

                              ********************

اثناء ذلك , وصل العفريت صنكركون الى المجلس , فوضع طحيور الحقيقي على الارض , فتح اللفائف , واستخرج المسحوق المنوم السحري , فاستيقظ طحيور , وراى نفسه في مكان غريب , فأمعن النظر في الملك خرطنطبوش , فشاهد قرونه تخترق التاج , وعيناه قد امتدا طوليا , وشعر كثيف قد غطى جسمه , ولفت نظره خاتما لماعا في احد اصابعه الطويلة النحيفة , ونظر حوله , فوجد الشبح الابيض جالسا في مكان ما , وقد لفت كلتا عيناه , ونظر مستكشفا المزيد , فوجد عدة اشخاص , يجلسون خلف منضدة طويلة , يغطيهم شعر ابيض طويل , بدت عليهم علامات الوقار , واجال نظره اكثر واكثر , فرأى عدة اشخاص جالسين على كراسي , يبدون شيوخا طاعنين في السن , لكن اشكالهم غريبة ومختلفة , فحدق في مكان اخر , فراى اشخاصا كثر واقفين , اشكالهم بشعة , الوانهم مختلفة , تبدو عليهم سيماء الحنق والغضب , واخيرا نظر خلفه , فشاهد العفريت صنكركون , بهيئته المريعة , وكان الملك يمشي جيئة وذهابا , تارة يقترب من طحيور , وتارة يبتعد عنه , فبادر طحيور لقطع السكون قائلا :

- اين انا ؟ .... ومن انتم ؟ .   

لم يتكلم احد , سوى الملك :

-         انت في مجلس محاكمة ! .

-         وماذا فعلت كي احاكم ؟ ! .

-         لقد قلعت عيني احد افراد قبيلتي ... ولابد ان تقلع عيناك .

-         لكنك نطقت بالحكم قبل ان ينطق به القاضي ! .

فاشار الملك للقضاة ان يبدءوا المحاكمة , ايقن طحيور انهم سوف يقلعون عينيه اذا لم يفعل شيئا ويتدارك الامر , فلابد له من الهرب , لكن كيف ؟! , وهو في وسط هؤلاء القوم , ولا يعرف في اي مكان هو , فلابد من حيلة يخلص بها نفسه , كي يعود الى بيته سالما ! .

انتظر طحيور حتى يقترب منه الملك , حتى ادار الملك ظهره لطحيور ومضى قدما , قفز طحيور عليه بسرعة خاطفة , وانتزع التاج منه , ثم وضع حافة التاج الحادة على رقبته , فأسرع الحراس لنجدة الملك , لكن طحيور حذرهم من الاقتراب والا قتل ملكهم , وبدوره صرخ الملك فيهم بالابتعاد , والاستجابة لطلبات طحيور , الذي جرد ه من صولجان وخاتم المملكة , فصاح الملك مذعورا :

-         طحيور ! ... سوف اعطيك ما تريد ... لكن اتركني ! .

-         لدى طلبين .

-         هما ؟ .

-         الاول ان تعفو عني وتلغي محاكمتي ! .

-         لك ذلك ... عفونا عنك .

-         الثاني .. كما اعلم ان الجن لديهم اساليب كثيرة لتسريع الفهم والحفظ ... لذا يجب عليكم ان تعلموني وسيلة جيدة , تمكنني من فهم وحفظ  دروسي جيدا .

-         لكني كما اعرف ... ان هذه مهمة المعلمين .

-         في السابق كان المعلم يتقاضى اجورا زهيدة .. وعطائه كثير .

-         واليوم ؟

-         اليوم المعلم يتقاضى اجورا كبيرة ... ولكن عطائه زهيد .. جل تفكيره في دفع اقساط الاجهزة الكهربائية او السيارة او اقساط السلف التي يستلمها من الدولة .

-         وهكذا يقل عطاء المعلم .... ثم ان هناك امرا اخر !

-         وما هو ؟ .

-         ان فكرك مشغول بالعاب الفيديو ( اكس بوكس , بلي ستيشن ) وبعض المسلسلات التركية كوادي الذئاب وغيرها ... لذا يتوجب عليك اشغال فكرك بالمنهج المدرسي فتفهم محتواه !

-         نعم ... لكني اريد طريقة ما كي احفظ وافهم الدروس بشكل سريع ... ثم اتابع هواياتي بالعاب الفيديو والمسلسلات .

-         اذا دعني استشير وجهاء القبيلة ! .

-         افعل .   

التفت الملك نحو وجهاء القبيلة , وعرض عليهم طلبات طحيور , فرد احدهم :

-         في السابق , كنا نرسل اولادنا الى مدارس البشر , فيجلسون هناك , حيث لا يشعر بوجودهم احد  , فيتعلموا , اما اليوم , فنرسلهم ليتعلموا في الخارج .

-         اعرف ذلك .. لكني اقصد هل لديكم وسيلة ما لتسريع فهم وحفظ طحيور ... المشغول فكره بوادي الذئاب وغيرها .

-         هذا الامر يحتاج الى تفكير ... امنحنا ساعة كي نتشاور في الامر .  

دخل الوجهاء الى غرفة خاصة , وخيم الصمت على المجلس , وطال انتظار طحيور , وبعد طول انتظار , فتح باب الغرفة , وخرج الوجهاء , ووجهوا كلامهم لطحيور , وقالوا بصوت واحد :

-         قال اجدادكم (( من جد وجد , ومن زرع حصد )) ! .