رغيف خبز
قصة واقعية من قلب ثورة سوريا
غرناطة عبد الله الطنطاوي
أخذ الطفل نقوداً قليلة من أمه، ليشتري بها خبزاً للعائلة..
فالأب قد اعتقل من أيام ولا أحد يعرف مصيره..
فكان هذا الطفل وأخوه الأصغر منه هما رجلا هذه العائلة المنكوبة..
فقد انتهى الخبز منذ يومين، والمخبز القريب من البيت قد قصفه نظام الأسد، كما قصف معظم مخابز مدينة حلب..
ألحّت الأم كثيراً أن تذهب هي إلى المخبز رغم مرضها، لأنها تخاف على صغيرها من تعرض المخبز إلى القصف، فيُقتل الصغير وتموت هي كمداً وحزناً عليه..
ولكن الصغير أبى إلا أن يذهب هو إلى المخبز، فهو كبير العائلة، وعليه تأمين حاجياتها..
رضخت الأم مرغمة لصغيرها الذي كبر قبل أوانه بكثير..
وضعت الأم النقود في يد صغيرها، وهي تضمّه إلى صدرها كأنها تودّعه، فكل شخص يذهب إلى المخبز، كأنه سيأخذ الخبز من فم الأسد، فالغادي مفقود، والعائد مولود..
وقف الطفل طويلاً منتظراً دوره في طابور الخبز، حتى جاء دوره..
أخذ الطفل ربطة الخبز وضمّها إلى صدره كأنه يحمل كنزاً، وأخذ يشمّ رائحة الخبز بفرح غامر..
كان رجل واقف ينظر إلى هذا الطفل بحزن بالغ، محدثاً نفسه:
-لمَ يأتي هذا الطفل ولا يأتي أبوه أو أخوه الأكبر منه؟
-كم هي الساعات قاسية وهو يقف في طابور الخبز، في هذا البرد القارس؟؟
-كم عدد أفراد أسرته؟ وهل تكفيها هذه الربطة من الخبز؟؟
-وكم بقي من عائلته بعد هذا القصف الهمجي؟
-يا إلهي ما أكثر الأطفال الواقفين في هذا الطابو، أين أهلهم وذووهم؟
-لكن... هل تستحق هذه الثورة كل هذا القتل والاضطهاد والمعاناة، لشعب كريم مسالم محب للحياة؟ وهل؟؟ وهل؟؟
قفزت دمعة ساخنة على وجنتي الرجل، بعد أن حبسها طويلاً..
لاحظ الطفل نظرات هذا الرجل التي تلاحقه، فشعر بالخوف الشديد منه..
ولكنه عندما لمح هذا الدمعة الحرّى على وجنتيه، تبدّد خوفه، ومن ثم اقترب مسرعاً من هذا الرجل حتى وقف أمامه.
غطّى الرجل وجهه بيديه ومسح دمعته بسرعة حتى لا تفضح عجزه..
لمعت عينا الطفل ببريق حزين، وانهمرت دموعه سخية، وقدم ربطة الخبز للرجل وهو يقول له، والبراءة والعفوية تزيّن ثغره الجميل:
-عمي!! أأنت جائع؟ خذ هذا الخبز، وسأذهب مرة أخرى إلى المخبز وأقف في الطابور وأحضر غيره، فقد سبقني أخي الأصغر مني إلى هنا وأخذ ربطة خبز، وذهب إلى أخواتي البنات الجائعات وأمي المريضة.
نظر الرجل إلى الطفل بنظرات تائهة ثكلى،
ثم انهار تماماً أمام رجولة هذا الطفل البريء، فسقط على ركبتيه، وأجهش ببكاء يقطّع نياط القلوب، وضمّ الطفل إلى صدره ضمّة قوية قائلاً له:
-أنتم كرامتنا وعزّنا ومستقبلنا... والله لن نضيّعكم أبداً..
ثم قام الرجل واقفاً على قدميه وهو يصرخ:
-الموت ولا المذلة.. الموت ولا المذلة..