قصة جرحُ نازف

هائل سعيد الصرمي

[email protected]

كان مروان في الأربعين من عمره عندما تسلَّق المَجدَ , واعتلى صهوة الريادة, فقد صعد سلم طموحه  بسرعة فائقة قرَّبته من مراكز التأثير, لكنه بعد ميلاد الحرية كان يحترق ـ كما تحترق الشمعة ـ على شعبٍ يسومه القابض على أزمته  سوء العذاب!.  كان  قائداً فذاً ,  في نظام , تسافر فيه قوافل  الأرواح الطاهرة عبر صهاريج الموت إلى باريها بدم  بارد  كل لحظة  بالمئات!!.  ها هو يشاهدُ شلال الدماء مسفوكا يغرق الثرى , ويرى شريان الأبرياء مُنفجراً  كانفجار السد إذا انكسرت جدرانه ؟!!.

وفي إحدى  الليالي  دلف إلى منزله مثقل الخطى!! يكاد يجهش بالبكاء, والهم يَهُدُّ كيانه , كما تهد النوائب الرجال الشوامخ !!  وهو يعاني من صراع مرير

فكلما تيقظ قلبه, التفتْ حوله  ثعابين الخنوع , وحية الاستكانة فيخور ويقعد , وكلما تنبه ضميره , شدتهُ حبال العواقب بأوتاد الأرض , ووحل المتاع , فيسكن ويصمت!.

ظلّ ينظر من بعيد إليهم  وقد نفضوا غبار الخوف , كما يُنفضُ الماء من الثوب المبتل , كان يشعر بالصَّغار أمام  فتية  ينتزعون الجبال الرواسي بأطراف أناملهم لا يبالون أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم!!.

يا لحسرة ما أصابه !! وقد تكاثرت أوجاعه  فتعامى , و كادت أن تُطمرُ بذرة خيرٍ ترعرعتْ في بستان فطرته , وأورقت في حدائق شعوره...لولا أن رأى برهان ربه , ودحرج الدهر تلك المجزرة الرهيبة , التي هزتْ خلجات ضلوعه , وأيقظتْ حنايا فؤاده , فأحيته وقد أرم , كيف لا يقشعر جلده منها,  ولهولها  يشيب الولدان؟!! وتضعُ كل ذات حمل حملها !! وترى الناس أشلاء مبعثرة  في الأزقة والطرقات , تحملهم الملائكة  بأثواب السندس وأردية النور, وهي تنسج لمن طغى خِزي الدنيا في يوم يشتعل الرأس منه شيبا , وتعدُّ عذاب الآخرة ـ لمن بغى  في يوم يُذيبُ الصخورَ وتخر الجبل هدا...!

عاد الصراع  ثائرا, كأنه جيش لجب يكاد يقتله من ضراوته!!  ها هو يصارع شبق شتاته!! والقوة تفرُّمنه كما يفر الصحيح من المجذوم وهو يلملمها كما يلملم الطير حبات القمح المنثورة...

لم تدعه  بوارج صحوه منكفئا  خائر التفكير ,  لقد أخرجته من قُمقم العثرة , إلى فضاء الحرية !!.

لقد هبت عليه نسمة الخير, فأذابت شحوم خبثه , وطوت شرور نفسه , فانتعش كما تنتعش العافية  في بدن شوفي بعد علة , أيقظته من سباته , وانتشلته من رفاته ؛ فأذهبت همه و بددت حزنه , لقد قرر بأن  يفر من مصحة المرضى  , مُنشقاً عن صفوف مصاصي الدماء , وآكلي لحوم البشر, لينظم إلى قافلة الأصحاء ومواكب النبلاء في جيشٍ حرٍ لجب ...لقد عزم على النهوض , مخترقا أجنحة بقايا الظلام  بين خيوط الفجر الذي بدأ يدب مُسْفراً بشعاعه على الرابية والتل.!

وها هي البهجة تغمره و تملأ كيانه , بمجرد مغادرةِ معسكر الظلام من داخل نفسه ,  كيف لو غادره بكليته.!!

خرج كأنما خرج من ثلَّاجة الموتى ـ التي لا تعرف الرحمة مسلكاً تنفذ إليها ,كما تنفذ إلى الأحياء في ميادين العزة ـ وهو يعلم أن شوارع النضال لها طريقان فإذا كان أو كانت فرح بفوزه كما يفرح الطفل عند شراء لعبته , وسرَّ كسرور الغائب إذا رجع إلى أهله.

وصل إلى منزل أحد أصدقائه , تاركا خلفه نعمةً كان فيها من الفاكهين!!  يا لحسرة غيابه  ولوعة اغترابه على فراق أمه!! , لقد أخبرها  بذهابه , ولم يخبرها بموعد إيابه.

خرج وصديقه , يتعرجان بين أزقة المدينة الملتوية ـ كالتواء الفصول ـ  والضحى ينسج خيطه مُرسلا, والشمس تتكئ على شعاعها المتصل به كاتصال الخيمة بالوتد, أخبره صديقه بأنهما اقتربا من المكان المؤمل.

نبض قلبه واشتدت لهفته استقبل بحافاوة وترحاب من  شباب يحملون رؤسهم على أكفهم ... وما إن وصل وشاهد هؤلاء الفتية والشباب الأبطال الذين يتلمظون تلمض الأفاعي  شوقا للقاء العدو يحملون له السم الناقع ـ حتى نَفَضَ أردية الخوف من على كاهله , وارتدى حلة الشجاعة , ولف درع الإقدام حول صدره , ولم يزل يتدرب مع أخوانه , حتى جاء اليوم الموعود الذي أزهق الحقُ الباطلَ , حيث جعل ثورة انتصاره , مهراً لثورة فنائه , وتسلل مع ثلة من الشباب يقودهم

في سرية تامة , حتى وصل إلى الهدف وفتح أسوار القصر ودخلت كتائب الأحرار أفواجاً ,ثم اتجه نحو سرداب ضيق ممتد تحت القصر يفضي إلى مدرج دائري  نفذ منه إلى ساحة عريضة تحت الأرض وفي وسطها قبة حديدية يصعب اقتحامها ظل صامتا يقترب برفق حتى وصل إلى الباب , وما أن فتحه ورأى الأفعى حتى انقض كالأسد وضرب الرأس ضربة أفقدتها التوازن فسهل عليه قيدها وأسرها ثم قام بجرها مسحوبة خلفه صاعد بها نحو قفص تغلى نيران الغيض من تحته ومن فوقه كالحمم البركانية , فألقها فيه لا لتموت ولكن لتذوق العذاب مرات متعددة بقدر ما أذقت آلاف البشر من العذاب والقتل, ولكن  النار من شدت غيضها لم تتح لها فرصة لتتذوق الموت مرار . لقد تخطفتها كالسباع قطعة قطعة  فسقط الرأس وخلفه الجسد.

واجتذب مروان ورفاقه بعدها النصر كما تجتذب الأرض أشعة الشمس , فكان يوما مشهودا خط بماء الذهب  ولون الحياة. انتصرت الحرية في بلد الحضارة والتاريخ في يوم مشهود , وإني لأراه  أقرب من حبل الوريد وأرى الشام  تحتضنه كما تحتضن الأم وليدها , في شوق ولهفة ,  بعد غياب وفرقة ومشقة وجهد , والله المستعان, فانتظروا تمامه إنا منتظرون!!!.

ثوري يا شام ولا تبقي لنظام الطاغوت  مجالا

ثوري تكريما للشهدا  لدماء تجري  شلالا

للشعب الصامد  إجلالا

لإباءٍ ضرب الأمثالا

مهما طال الجور ومهما الجرح النازف فيكم طالا

والصمت الدولي العاثر أمسى للطاغوت  ظلالا

والأمة من حولك خرسا

صما تتفرج

ترقب معجزة ...خارقة

تحميك  هضابا  دامية وتلالا

ثوري  في وجه الصلف المحموم                                   

                   هنالك يا شام  نساء ورجالا

وحدك من يرفع أستار العتمة يطوي ضيمه

يكسر تابوت الأصنام  ويمحو غيمه

فيك أرى أبطال العزَّة  سعدا عمارا وبلالا

صمدوا فوق ثراك الدمي ما هابوا أبداً أهوالا

ثوري  في وجه السفَّاك الأرعن

من هتك العرضَ

وأضرم جوف الأخدود وألقى في النار الأطفالا

من قتل الشعب الصابر بالآلاف

وأحرق  "دير الزور" و"درعا" و" الرستن"

ورياض  الوادي الخصب و"شهبا"

و"الرقة"

من قصف الكرم بأشباح الليل

وأغرى بالناس الأرغالا

من عذب صبيانا كالأزهار الغضة

كالورد البسام ، صبايا لم تبلغ حلما

شق ستار الطهر  ولاط  الأشبالا

هدم الأحياء بمن فيها وطوى تاريخا ونضالا

بسلاح المشرق والمغرب أضحت  أطلالا أطلالا

وبصاروخ الروس وفيتو الصين

وصمت الغرب ومال الفرس

يدمر كل حياة الناس هناك وما بلغ الآمالا

لم يسطع أن يخمد أنفاس الثورة

أو يوقفَ حلمَ امرأة بشوارعها  سالا

معقود بضفائرها التاريخ تجر به الأقيالا

أعيته همة شبل حر سطر صفحات المجد وشاد جبالا

ولوى عنقَ الاستبداد وأيدي الذل وصال وجالا

لن يهنأ بالعرش و لن يحكم أبدا

من أثكَّل بالبطش نساء حتى لو أفنى الأجيالا

فزئير النصر على الأبواب

وتلك قوافل جيش حر لجب عن أمته كسر الأغلالا

قف مختالا

وافخر بصمودك

ستعود بإذن الله  أراضي الشام تفيء ظلالا

وستطوي  كل زبالات التاريخ

وتشنق وجه الليل وترفع عنا الأحمالا

تعس الطاغوت الموتور

فكم دنس تاريخ الطهر وفض بخسته الأبكارا

لم يترك أي وسيلة عهر.. في تاريخ

الإنسانية إلا مارسها  الطاغية المدعو بشارا

أبداً لم  يسطع أن يغتال الإصرارا

أحرار الثورة تزأر كالأسد الضاري

تنهش كل الأوباش المأفونة

كالطوفان  الجارف

تسحق كل جيوش الظالم  تيارا يتبع تيارا

إعصارا يدفع إعصارا

...

فأزيز النصر يرفرف  في "دير الزور" "ودرعا"

في ربوات الريف وأطراف المدن الشماء يشب المرعى

وتجوب "دمشقَ"  بيارقة ابن العاص

وقطز يقطف وردا من روضات "الحسكة"

وبنو حمدان وسيف الدولة أحيوا أمسية  تتدفق نبعا

والمتنبي يبدع في أشعار النصر يهز السمعا

والظاهر بيبرس ينصب في الرقة راياتٍ النصر

وأرض الغوطة جيش يسعى

شبيحة بشار بعد هجيع الحرب تراهم  صرعى

"حلبٍ" لله تصلي في يوم النصر  وتتلو سبعا

ليعيد التاريخُ التاريخَ  لكي تحيا الأمة جمعا

وبساحة "حمصٍ" جندٌ مشغوفون بعشق الحرية

فعلى أسوارك سورية  بدأت  راياتٌ فضية

بدأتها "درعا" .... سلمية

تبعتها كل مدائنك الغرقى في وحل العلوية

"طرطوس" و"إدلبْ"

و"دمشقٌ " وجميع مرافئ سوريةْ

حتى صارت كل  مدينة سلم تهمي فيها دمعا

وتفيض دما  وتغني لحن الحرية

بدماء الشهداء ومن أنات الجرحى

كل الأوطان  سمت أعلاماً  ذهبية

تهتف تهتف سلما حربا بمخاض صعبٍ تولد باسم الله وتغدو أبدية

في كل بلادٍ عربية  ميلادُ ربيع الحرية