في ليلة محاق
في ليلة محاق
صالح عبد العظيم الشاعر
لم يعرف ماهية المكان الذي وجد نفسه فيه، كان الظلام دامسًا، بالكاد يوجد بصيص من النور، وكان في رقبته إناء كبير معلَّق بأسلاك، لم يكن الإناء ثقيلاً، لكن الأسلاك كانت تؤذي رقبته.
وصل إلى حائط فيه مجموعة من الصنابير، ووجد عنده أحد جيرانه ـ وهو موظف بسيط ـ واقفًا أمام صنبور منها، الصنبور ينزل نقطة نقطة، وفي يده كأس ملأى، وهو يشرب وعلى وجهه علامات الرضا، ثم يضع الكأس مرة أخرى فتمتلأ، تعجَّب... كيف يشرب هذا الرجل؟ وكيف تمتلئ الكأس من صنبور يعطي نقطة نقطة؟
*
توقف أمام صنبور آخر في الحائط، وأدنى الإناء، وفتح الصنبور... تدفقت المياه بغزارة... كادت رأسه ترتطم بالصنبور من اندفاع المياه وثقل الإناء، لقد امتلأ!
مشى بخطوات متثاقلة، وهو مشفق على قطرات الماء التي تتهرب من الإناء الممتلئ.
لم يشعر كيف خرجت خمس من الماعز، سوداوات، كيف خرجن من هذا الظلام؟ في عيونها رعب، والعطش جعلها متحمِّسة لفعل أي شيء!
*
انقطع السلك من رقبته ...
حاول دفع الماعز بلا جدوى ...
أوشك الماء على النفاد من الإناء ...
تعثر وسقط على الأرض، وكان بين جبينه وبين الأرض وتد، وبين جبينه وبين الوتد بضعة ملليمترات!
لأ .. لأ .. لأ .. خرجت من حلق عصام المتحشرج، وأيقن أنه كابوس ثقيل، امتدَّت يده إلى كوب الماء بجوار سريره، وعاد يحاول النوم وقلبه سينفجر بين ضلوعه.
*
مر أمام عينيه شريط أسود لحياته التي امتدت خمسة وثلاثين عاما، بين سنوات الإصلاحية وسنوات عزبة الهجانة، لم يعرف للسعادة طعما، وكأنه خُلق للشقاء، حتى أمه، المصدر الوحيد للحنان في حياته أنهى علاقته بها بصفعة، وباء بغضب منها ودعاء.
حاول أن يدرك للحلم كنها، وأن يفسره لعله يهرب من حيرته، أتكون الماعز خمس سنوات أخرى في السجن؟ أم هي خمسة آلاف سرقها من جاره قبل عدة أيام! بل هم أبناء (حسين) الخمسة الأيتام الذين طعن أباهم بسكين، لا، إنها النسبة التي سيحصل عليها بعد بيع صفقة المخدرات الأخيرة.
وظل يحاول أن يدفن رأسه في الفراش، منازعا مكبر المسجد المجاور وهو يزمجر : (ومن أعرض عن ذكري).