لبتون

"لبتون"!

جمال الحنصالي

كلّما أحسّ بغصّة في حلقه، وانكسر شيء من رجولته في جوفه، كلّما زارته وساوس الشيطان في عقله، وزفزفت رياح الخيانة عش أفكاره... جاشت نفسه وانقلبت وعافت الطعام وهاجرت طيور الفرحة برج أحاسيسه وكانت الابتسامة خبرا لفعل ناقص وانطفأت أنوار العطف في عيونه... فتراه يركب بجنون سيارته الفستقية من نوع "رونو 12" يحمل معه بعضا من وساوسه وهواجسه من المنزل الأول ليلاقيها ببعضٍ من ذكرياته الطفولية البهية التي مازلت تسكن المنزل الثاني، ما شاخت وما كبرت وما ماتت...

 ولج الرجل، الذي أناف عن السبعين عاما، سريع الخطى منزله الثاني المتواري خلف أشجار الزيتون، بعد أن كسر المِزْلاج لأنه نسي المفاتيح كالعادة من شدة الغضب. لم ُيلق التحية على عصفوره الأصفر الحزين كما ألف، وضع السّبحة على المنضدة الخشبية، وعلبة السجائر خلف المزهرية، ونظر إلى صورة أمه ذات اللونين الأبيض والأسود قبسة من الزمن، وتنهد عميقا، ثم بسط السّجادة على التو، فصلى صلاته مراهقا، والعرق يسيل مراوغا زغيبات لحيته الكثّة.

 بعدما فرغ من الصلاة رفع كفي الضارعة إلى السماء فتمتم قليلا مخفيا أمرا مريبا في قرارة نفسه، وتسمعه يقول: "كنت شابا فصرت تابّا.. كنت شابا فصرت تابّا.." أعادها زفّة أو زفّتين وصوته المرتجف يبحث له عن مكان في حنجرته المجروحة.

 أطلق سراح أزرار قميصه المتسخ لتتبقى الحُجْزات مفتوحة كالمطلقات؛ شيء أوحى له بالحل السحري الذي ساوره يمنة تارة ويسرة طورا، لكن "الأولاد والبنات" آه من "الأولاد والبنات"... تنفس بصعوبة وعيونه كأنها تقول: "أنا راض بمنى الله"، ثم استوى على أريكته وأسند جسده المتعب بوضع اليدين خلف قفا رأسه الأزْعر، وراح يفكر في سر الصُّرة البنية اللون التي وجدها في براد الشاي...

 هل هي لعبة من الألعاب النسوية؟ هل هي نوع من السموم الفتاكة؟ هل هي بقايا أظافر وشظايا فروات حيوانات برية بريئة ؟؟

 هي أسئلة مزعجة تكاد تعصف بكيان الرجل المسكين الذي لفظته مناجم الفضة بعد أن امتصت عرقه ودمه سنوات طوال.. لكنه اليوم لم يدع الشك يُزحّله عن اليقين والحقيقة.

 توكل على الله، وحمل الصّرة المبللة بالشاي وعصرها في يده كأنها متهمة يسوقها صوب مخفر الشرطة. سار بين أشجار الزيتون في اتجاه دار خبير يعرف بنات هذه "الألاعيب" فهو فقيه وعارف بخبايا الصُّرر و"الحجابات"....

 نظر الفقيه إلى الرجل مخفيا ضحكة أوشكت أن تهم بالخروج، وقد آتاه بالأمر صُراحية، حيث دنى منه فقال:

إنها "لبتون"