عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه

عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه

خالد الحموي

لا اعرف ماذا أصابني اليوم … ؟

ما عدت أريد التواري وسوف اذهب إلى كل التظاهرات،. لم اعد استطيع ان اخفي هويتي أنا الفنان الذي تحوّل إلى ثائر... وتحولي هذا ليس له علاقة بذاكرتي البعيدة في حماه عن مقتل أبي ومقتل مدينة طفولتي واغتصاب نسائنا وسجننا وقصفنا وقهرنا وتهجير من بقي منا إلى الريف ليتسنى لهم تغطية جرائمهم. اقسم بالله أنني لست حاقداً أو طالباً للثأر ولكني مع القصاص العادل. حزني الآن له علاقة بمشاهداتي اليومية لما يحصل من حولي. نتظاهر فيطلقون علينا الرصاص، نشيع فيمطرونا بالرصاص، نعود لنشيع يردون بنفس الطريقة . وهكذا. نجلس في بيوتنا، فيكسرون الأبواب ليعتقلوننا ويخيفون أمهاتنا ..

إذا لم أُقتل أنا فسوف يُقتل غيري؛ اقسم بالله أني أحب الحياة ولكني أحب العدالة اكثر. ارجوكم، اخبروني ماذا افعل. لا اعرف ماذا أصابني اليوم … ؟ تذكرت اليوم، أكثر من أي يوم، تذكرت أبي .

أبي كان طبيب عيون في حماه. لم يكن من جماعة الأخوان المسلمين، لكنه انحاز لأهل مدينته المستباحة .صدقوني، ونصف أهل حماة يشهدون على ذلك، لقد قلعوا إحدى عينيه وهو حي، ثم قتلوه ومثلوا بجثته أشد تمثيل.لما دفناه وكنت صغيراً، أذكر أنه كان بلا عيون.

في شباط 1982 كان عمري 6 سنوات وكنت في الصف الأول ابتدائي وقد انتهينا من الفصل الأول وكانت عطلة الربيع، ويا لها من عطلة ..ليلاً ونحن نيام نسمع أصوات مدوية تكسر صمت المكان وتحول الطمأنينة إلى هلع قاتل، فيما ارتباك كبير يبدو على عمتي التي ربتني وأنا أنام بقربها لأملأ فراغ الأمومة لأنها لم تتزوج أبدا، وكانت تعيش معنا في بيتنا الجميل المؤلف من طابقين كبيت عربي تقليدي . باقي أسرتي وأبي وأمي ينامون في الطابق الثاني، بعد هذا بلحظات أسمع أصوات أخوتي وأبي وأمي تعلو وهم ينزلون الدرج ويدخلون غرفة عمتي، فيما يتصاعد إطلاق الرصاص أمي تقول لأبي ( الم اقل لك أن نبقى في المزرعة ) ، هذه الجملة لم تفارقني لسنين طويلة وانا افكر بها وتؤلمني فكرة أن أبي لم يبق في المزرعة، بقي الأمر حتى كبرت وسامحته وقلت إنه القدر .

صوت الرصاص بدأ يملأ الحياة، كنت أسمع أزيزه للمرة الأولى، الصوت يرتفع أكثر، ثم بدأ صوت الانفجارات ومرت الساعات وبعدها بدأنا نتعود على هذه الاصوات، يمر الوقت ويبدأ بعض الجيران بالتوافد إلى بيتنا . فوضى عارمة في كل مكان، اطفال يبكون، ونساء تقرأ القرآن وقلق كبير، هذا الوضع استمر ثلاثة أيام، وبعدها سمعنا صوت انفجار كبير، قال أبي إن قذيفة أصابت الطابق العلوي، واهتز البيت كما ملأ الغبار رئتي كمثل ما ملأ المكان وتعالى صوت النساء يقرأن سورة ياسين، فيما ارتفعت وموجة بكاء حاد .

قال أبي، يجب أن نغادر المنزل بأقصى سرعة، خرجنا وبدأ الناس بالتجمع والصراخ. كان الذعر يسيطر على كل شي، دخلنا إلى بيت احد الجيران ومن ثم إلى قبو مظلم اعتقد رجال الحي انه أكثر أمنا من غير أماكن، وكان العدد اكبر من المكان . وبقينا ثلاثة ايام والرصاص لا يتوقف أبداً بعدها تندفع قذيفة مدفعية تهز كل شي، وسورة ياسين ترتفع حتى السماء، وقذيفة ثانية وثالثة المكان في اهتزاز دائم، فيما لم يصب احد من الذين كانوا في القبو، ولكن كثيرين من أهل الحي ماتوا وأصيب الكثيرون، والطبيب الذي يسكن الحي انقذ من استطاع انقاذه .

بقينا في القبو حتى هدوء القصف والرصاص، اخرجونا وقالوا يجب المغادرة باتجاه أحياء أكثر أمناً، لم يعرفوا حتى هذه الساعة أنهم كانوا مخطئين ولم يخطر ببالهم أنها كانت حملة إبادة جماعية .

خرجنا مسرعين باتجاه سوق الحاضر لنعبر الى الأميرية وصلنا إلى شوارع كان علينا ان نعبرها زحفاً لوجود قناصة في كل مكان، بعد وقت صعب وصلنا إلى حي الاميرية عندما قطعنا الشارع الأخير زحفاً كان أبي يساعد عمتي المرأة الكبيرة وأنا ملتصق بها تماماً، عبرت امي وأخواتي مع الجميع وبقينا نحن الثلاثة، حينها طلب مني ابي ان الحق بالجميع، فرفضت لاني كنت اريد ان اظل مع عمتي التي ربتني، ولكنه أجبرني على اللحاق بأمي والآخرين وبقي هو مع عمتي وهذه كانت آخر مرة أرى فيها أبي حياً .

في حي الأميرية تابعنا البحث عن ملجأ يحمينا، وجدنا قبوا مكتظا بالناس، لم يستطيعوا ادخالنا لأن عددنا كان كبيراً جداً ( معظم سكان حي البارودية ) ، ولكنهم ادخلو ابي وعمتي، فهم اثنان فقط . في ذلك الملجأ في الأميرية اعتقل ابي وبقيت عمتي التي رأت وأخبرتنا بما حدث .

تابعت مجموعتنا الطريق باتجاه شمال الأميرية ووجدنا هناك ملجأ كبير يتسع للجميع وبقينا داخله يومين قبل وصول الجيش العربي السوري. عندها تحول الملجأ إلى معتقل، حيث اخرجوا جميع الرجال والشباب من المكان، واعدموا بعضهم مباشرة عند الباب، واعتقلوا الشيوخ كبار السن. بقي في المكان النساء والأطفال، البعض يبكي والأكثرية يرددون بعد مجبرين تحت التهديد ( ”بالروح بالدم نفديك ياحافظ”، “ يا الله حلك حلك يقعد حافظ محلك”، للامعان في مهانتنا).

ثلاثة أيام سجنونا وقتلوا من شاؤوا، اقسم بالله من دون طعام، رائحة المكان -أتذكرها جيداً-. كانت لا تطاق، ودائما ما كنا نسمع اصواتا صراخ خارج القبو، اغتصاب نساء، وتعذيب لا يمكن لي اليوم أن أصفه أو أتذكره إلا ويؤثر بي .

لقد كان مع بعض النساء سكاكر وشوكولا، وقبل ان يأخذوا الرجال احضر احدهم خبزا وزيتون تقاسمنا كل شي... كميات لا تكفي لرجل واحد؛ في هذا الوقت كانت النساء تقرأ القرآن من دون توقف، ولكن بصوت منخفض. وبعدها فتح الباب وطلبوا منا الخروج لأنهم قالوا سوف نقتلكم وبدأنا نهتف بروح بالدم نفديك …. الخ، عندها قالوا يجب أن نذهب باتجاه طريق حلب والاتجاه خارج المدينة. سرنا نرفع أيدينا ونحن نردد ما طلب منا، منظر لا يعقل. المكان مليء الجثث، وهي منتفخة، والدماء سوداء، ونحن من شارع إلى آخر، الجثث والدمار في كل مكان .

تقدمنا حتى وصلنا إلى جامع عمر ابن الخطاب ( الذي تسمعون عنه اليوم والذي بدأت فيه الآن التظاهرة للمطالبة بالحرية). كان الجامع مدمراً، لم يبق فيه إلا الموضأ، كان فيه بعض عناصر الجيش أخافونا بتوجيه أسلحتم علينا، فانبطح الجميع أرضاً، وبعدها أدخلونا إلى الموضأ وأغلقوا الباب بإحكام، بعض النساء قلن لعناصر الجيش اقتلونا ودعوا الجميع يخرجون من المدينة ولكنهم رفضوا .

عند دخولنا الى الموضأ وجدنا خبزاً عفناً هجمنا عليه وبدأنا بالأكل .. وهناك وجدنا أيضا تمثالين صغيرين من حمام الزينة الأبيض، لا اعرف لماذا كانا هناك، ولكنهما بديا لي على أنهما مؤشراً لبداية الخلاص من حمام الدم . بقي الباب موصداً لمدة يوم ونصف بعدها أُلقيت خطبة من احد الضباط قال فيها “التي لها زوج أو أخ او ابن أو أب وتنتظره، فلا تنتظره لأنه لن يخرج حياً أبدا و لن يعود” .

أطلقونا باتجاه حلب، مشينا أكثر من عشرة كيلومترات نسابق الزمن ونحن حفاة نبكي والنساء تقرأ القرآن، وإذا سمعنا إطلاق رصاص مباشرة كنا ننبطح جميعاً حتى وصلنا إلى النقطة التي سمحوا فيها لأهالي القرى الوصول إليها لمساعدة الناجين .ماذا أقول … اقسم بالله، هذا غيض من فيض.