الرجل الشبح
الرجل الشبح...
رضا سالم الصامت
فجأة ارتعشت الأرض و ارتدت من تحت أقدام الناس و تشققت الطرقات و تهدمت البنايات في لحظات معدودة
و من كل المسارب سقطت الجسور و اندفع الناس فزعا من الخوف على حياتهم يصيحون يستغيثون
إنها الكارثة ..إنها الكارثة... انه الزلزال .. ماعدا شخص واحد ظل يتأمل ما جرى في دهشة و كأنه غير مبال لما يجري فتسمع الناس يقولون له : ابتعد يا رجل، لا تبقى هنا !
و بعد برهة من الزمن ،بدأ يتحرك عندما هدأ الزلزال و هو يسمع صياح و عويل و أنين النساء و الأطفال من تحت الأنقاض، لكن الزلزال قاس فقد عاود الرجة هذه المرة خفيفة نعم خفيفة بعدما دمر كل شيء ، فتذكر الرجل آية قرآنية تقول: إذا زلزلت الأرض زلزالها * و أخرجت الأرض أثقالها * فقال الإنسان مالها.... صدق الله العظيم
الكل خرج ولكن المنافذ انسدت أمام الناس ، و الشوارع غصت و أصبحت ركاما من الحجارة و الأتربة و الفوضى دبت في كل مكان
!ملامح المدينة تغيرت فجأة
قال بصوت أجش - رخيم - حزين : آه أين ذهب بك الزلزال يا مدينتي ، آه ... لم يبقى أمامي أي حل ، سوى أن أشمر على ساعدي و أكون متيقظا للغاية و أساعد أبناء جلدتي ...
تقدم نحوه مسؤول عن المدينة المنكوبة و سأله : من تكون ؟
رد عليه قائلا : أنا الرجل الشبح !
تعجب المسؤول و نظر إليه قائلا : هيا ابتعد من هذا المكان أيها الشبح ، قد تعرض نفسك للأذى !
الشبح ، لم يهتم بالمسؤول ، بل واصل طريقه و تقدم نحو الأنقاض و بيده منديل أبيض
***********************
و بعد برهة من الزمن ، شبع الرجل الشبح تأملا في ما أدت إليه الأوضاع بعد الكارثة، و قرر أن يندفع بجسده غير مبال بالأخطار التي تحدق به من كل جانب و هو يرى بأم عينيه الفزع الكبير والفوضى و الناس تهرول و تولول والرجل كعادته غير عابئ لما حصل و لا يريد أن يستسلم للقدر و للهزيمة و مرارة الضياع و يأبى أن يطيع من جاءه صارخا في وجهه : هيا ابتعد من هنا فقد تعرض حياتك للخطر .......!
لكن الشبح ، رفض الابتعاد و شمر على ذراعيه و تقدم ثابت الخطى حذرا ، مسرعا لكل من طلب النجدة ، يتحول بين الركام تحت و فوق الأنقاض و بين حطام و حطام و كل من يصيح و يستغيث ، يتوقف ليفكر قليلا كيف سينقذه و بأي طريقة يمكن ضمان نجاته و لا يتركه لوحده يواجه مصيره ، فتراه يقترب منه و يهدئ من روعه ثم يبدأ عمله و يخرجه من تحت الأنقاض بسلاسة و بأخف الأضرار...
رجال الإنقاذ قالوا له : هيا ابتعد أيها الرجل ، اتركنا نقوم بعملنا فالمكان خطر عليك ، انك تلعب بالنار و ستلقى حتفك !
************************
التفت إليهم مبتسما ، رغم المرارة و قال : دعكم من هذا الكلام فلا مفر من الموت ، ثم إن الإنسان خلق من اجل مساعدة الآخرين هكذا أوصانا الله سبحانه و تعالى ..
الرجل الشبح مد يده بشجاعة ليجذب هذا الطفل و ذاك من تحت الأنقاض و يجذب هذه الطفلة أو تلك المرأة وهذا الشيخ المسن يرفعه على ظهره و يوصله إلى مكان آمن ثم يعيد الكرة ... و هكذا كان حقا منقذا شجاعا بل بطلا
المنقذين من رجال المطافئ و عناصر الجيش و على رؤوسهم قبعات سوداء خدشتها الحجارة و امتلأ وجههم بالغبار و أيديهم ملطخة بالدماء أعجبوا بشجاعته ، و الرجل لم يجد بدا غير التحدي رغم أن الأخشاب تهوي على جسمه النحيف يعانق الكلس و يقاوم بشدة و بيديه و رجليه لا معول و لا فأس يحملهما .. كانوا معجبين بشجاعته و بنيته القوية رغم جسمه النحيف .
كل الناس صفقوا له إعجابا ، رغم ما أصابهم من هلع و جراح و كسور... وكان الرجل متأثرا جدا يذرف الدموع و يحييهم و هو يقول لهم : هذا واجب علي ..
***********************
سيارات الإسعاف تهرع إلي المكان وصوت نفيرها يتردد لحث الناس على افساح المجال للوصول إلى الجرحى والمصابين لتنقلهم إلى اقرب مشفى ، و كان الرجل يراقب العمليات بدقة متناهية ، فحتى الممرضات و الأطباء يتعاونون معه من اجل إنقاذ المزيد من الجرحى و إسعافهم على عين المكان .
تتيبس يدا "الشبح " و هو يحاول إنقاذ المزيد و المزيد من بني جنسه و ظل هذا الرجل صامتا ، يبحث هنا وهناك عن المزيد من الناجين من الجرحى إلى أن بدأت تخور قواه... و طوال الليل لم يهدأ له بال رغم المعاناة ، و رغم تواصل الارتدادات الزلزالية ، كان بين الفينة و الأخرى يمسح بيده العرق الذي يتصبب على جبينه و أحيانا يهتز حزنا و أسى عندما يخرج من بين الأنقاض جثة شخص ما، فتراه ينحني أمامها حزنا و يترحم على روحها الزكية ... و يغطي وجه المتوفى بمنديله الأبيض ...
**********************
اشتد به التعب و أراد الشبح أن ينام و لا ينام ، و أراد أن يغمض جفنيه و لا يغمض ، انه هذه المرة على غير عادته
و أخيرا تراءى له الفجر بعيدا ، و خانت الشمس الشعاع ،و خانت عقرب الثواني كل الساعات و انطفأ النور و انقطع الماء و تغيرت ملامح مدينة بأكملها ، كانت بالأمس جميلة رائعة فأصبحت كئيبة حزينة كيف كانت و كيف أصبحت ؟ و راح يبحث عن جواب و لم يجد غير الصبر فكل بيوت جيرانه تهدمت.... و استوت بالأرض ، كل العصافير فرت فزعا وغادرت أوكارها ، كل الأشجار حزينة ، وحتى الفراشات طارت لبعيد ....
أين بيت جاري فلان؟ و أين مدرستي؟ و أين حدائق مدينتي؟ ، كل الطرقات تقطعت أوصالها .. إنها الكارثة !
سمع أنين صوت امرأة تطلب النجدة من تحت الأنقاض، سمع صوت صبي يبكي فزعا سيموت من الجوع فقدم له طعامه وسمع صوت خافت لفتاة تئن من شدة الألم و العطش فسقاها ماءا و ضمد جراحها و فجأة صاح الرجل صيحة عاودت فيه الحنين ،انه البطل المنقذ و المسعف، الذي قرر أن لا ينحني و أن يكافح و يتحدى الزلزال و لو كلفه ذلك حياته - انه الرجل الشبح -
لم يكن بطلنا هذا وحيدا بل كانت يساعد الناس و يقاوم و معه أحلامه - أطفاله ، قصائده هي أهله و أصدقائه و اسم الله كان آخر ما نطقت به شفتاه قبل أن يستشهد في سبيل إنقاذ الآخرين.
فقط كان يأمل في أن يعانق العيد و يعانق فجر جديد و تخرج من شرنقته فراشة تنقل عطر الربيع ناشرة الأمل و الطمأنينه في قلوب الأحياء الذين بقوا من الزلزال الكارثة.
كان ينتظر الرحمة تنزل على أرواح الذين لقوا حتفهم. و هم شهداء عند الله
أمله الوحيد أن يرى مدينته تعود إلى حياتها الطبيعية و لكنه كان يأمل الكثير ، مع أن عقرب الثواني قد خانت عقرب الساعات و رحل عن الدنيا ، لكنه لم يرحل عن أهل مدينته ، و مع كل ذكرى عيد هو آت لا محالة ... الرجل الشبح