مقام العودة..
محمود القاعود
كانت نورا ونارا !
كان الاتفاق ألا فراق ! ثم كان التلاق بلا وفاق !
كنسيم الفجر جاءت .. كشهيق النار رحلت ! لم ترحل كما يرحل الناس .. بل رحلت بى وبها .. وتركت بعض ما يذكرنى بى لا بها .. فأنا هناك حيث ذهبت .. وهى حيث أنا وهى !
ذهب الكُل للكل وعاد البعض للبعض .. يومها أحسست بهزة الهلع تجتاحنى .. كأن ما سمعته منها منذ عشر سنوات أسمعه الآن .. أخذت أُجفف جبينى الذى بلله عرق الكلمات وأطرقت .. لا أريد أن تلتقى العيون .. حاولت أن تُسكن من روعى وقالت بنبرة ملؤها الحنان : أتعرف لماذا أُحب الهواء ؟! كان صمتى هو الجواب .. ثم أردفت : ألا تريد أن تعرف الجواب ! رفعت رأسي .. وجدتها تتأملنى كأنها ترانى للمرة الأولى .. تلاقت العيون والظنون .. قرأت فى أساريرها مالم اقرأه فى البشر .. تابعت بما يُشبه الهمس : أُحب الهواء لأنك تتنفسه .. ! كان لتلك الكلمات عبير غير محسوس كأنه موجات الأثير !
شعرت بخدر غريب .. وكأنها استحبت هذى الحال التى وجدتنى عليها .. فأرادت أن تجعلنى أحلق معها في اللا زمان .. واللا مكان .. فى دنيا ليست الدنيا .. قلبي يُنصت .. وقلبها يتحدث .. أسمع قبل أن تتحرك شفتاها ..
أتذكر وأنت فى الخامسة من عمرك .. قُلت لى أريد أن أتزوجك ! لا أدري كيف شعرت يومها أنك تعنى ما تقول رغم طفولتك البريئة ! لن أنسي ما حييت هذا اليوم ! أذكر صوتك الطفولى .. وصدقك فى الكلام ..
ثم ضحكت كعصفور يُغرّد فرحا بالتنقل بين الأغصان وقالت : سأحكى لك سر .. كُنت أكبرك بسنوات .. ورأيتك مع والدتك .. ولم تُكمل عامك الأول بعد .. قلت لها أُريد أن أتزوج ابنك ! وحملتك بين يدي .. وقبّلتك !
وفجأة وجدت صوتها يفيض بحزن يزيد حزنى كلما تذكرته .. الدنيا لا تسير كما نريد .. لتلك العبارة دوي ورنين كأنه مطرقة تهوي فوق قلبي ليُصبح هشيما تذروه الرياح ..
نظرت إليها بتوسل .. كانت تفهم ما أريد بالنظرات .. بل بالصمت .. حدثتها عيناي برجاء أن تكف عن الاسترسال .. فلبت الرجاء وابتسمت لتزيل غبار كلماتها .. التى أوشكت أن تعصف بى
كنت أعلم أن طريقنا تغمره الأشواك .. لكن أشواك الروح أقسي من أشواك الطريق .. أنّى لروحي أن تفارق روحي ؟!
مرت دقائق من الصمت .. كانت العيون تتحدث .. انحدرت بعض العبرات من عينيها .. شعرت بتلك العبرات قطرات من دمى تنهمر فوق وجهها الملائكي .. تماهى الحزن والألم بيننا .. لكنها كانت دائما .. لا تحب أن تجعلنى أحزن .. حتى عندما كنت أحتد وأغضب كانت تلتزم الصمت .. أيقظنى رنين الهاتف ذات ليلة فى الرابعة فجرا.. لأجدها تعاتبنى على ما قلته فى الرابعة عصرا ! انتظرت كل هذه الساعات لتعاتبنى !
بدد صمتنا الحزين نغمها العذب : وحشتني وأنت معي ! لم أرد من فرط السعادة ! ثم صعقتنى وقتلتنى ..أدعو الله أن يقبضنى قبل أن أراك بعيدا عنى ! لم أؤمن على الدعاء .. كنت كالطفل الضائع الحائر الغاضب .. قلت لها بفزع : لماذا تدعين علىّ ؟! استدركت على الفور لتهدئ من روعى .. أضنانى التفكير فى مستقبلنا ! أعلم أنك تعتبرنى روحك ونفسك وما يُصيبنى يصيبك .. لكن خوفى من الأيام أتعبنى .. ثم سألت بابتسامة جميلة .. هل ستتزوج من الحور العين ؟! ضحكتُ كثيرا .. وضحكت هى .. وأعادت السؤال بنبرة بها شئ من الغيرة ! قلت لها : لكل حادث حديث ! أطرقت وكأن وجهها ينضح بالحزن .. وقالت بصوت مختنق بالعبرات .. لماذا لا ترد بصراحة ! ضحكتُ .. وأمسكت بيدها ..فسري تيار الشوق فى الجسد لينتقل إلى الروح فى ثوان .. وقلت لها بنبرة حاسمة .. هل أنا أعلم أنى سأدخل الجنة ؟! أجابت فى الحال : إن شاء الله سأدخلها أنا وأنت ! أرجو أن ترد على السؤال ! أجبت مُستسلما وصادقا .. أود أن أخرج قلبي من صدري .. ستجدين نفسك وقد أحكمت إغلاق باب هذا القلب !
تنهدت فى ارتياح .. ورأيت ابتسامة الظفر فى شفتيها .. فاضت نفسها بالفرح والسرور .. واكتسي وجهها بهدوء بديع زاد جمالها جمالا ..
لم يكن فى مخيلتي الفراق .. لكنى كنت أتوقعه .. قالت لى رأيتك قبل أن تُولد وقبل أن أًولد .. التقينا قبل اللقاء .. وأحببتك قبل الحُب !
ذهبت .. وتعود بما تركت .. كأنها ما ذهبت .. !