البحث عن مكان لدفن السيد مسعود
البحث عن مكان لدفن السيد مسعود
حسن لختام - قاص من المغرب
كنت أنتظر بفارغ الصبر قدوم "الأتوبيس" ليلقي بي قرب الجامعة. ذاك اليوم كانت عندي محاضرة مهمة في علم اللاهوت..بعد طول انتظار ظهر الشبح،فرميت بنفسي داخله كبقية الحشود..صراخ وازدحام، وسب وشتم بين الركاب..لامكان للوقوف ولو برجل واحدة. كان "الأتوبيس" يتقدم بصعوبة بالغة، لاأدري لماذا!!.. ربما بسبب الإزدحام المفرط، أو أن السائق يتعمد ذلك، ربما هو شخص سادي.. ويريد أن يستمتع بمعاناة الركاب وهم ملتصقون ببعضهم البعض. كانت درجة الحرارة داخل "الأتوبيس" لاتطاق..كنت أشعر بالإختناق، حتى أني قرّرت في لحظة من اللحظات أن أقفز من النافذة، وأنفذ بجلدي وروحي من تلك المأساة. في نهاية المطاف، تراجعت عن قراري..فإن قفزت من النافدة، سيتهمونني الناس -بالتأكيد- أني سرقت شيئا ما من أحد الركاب، وأحاول الهرب عبر النافذة. تقدمت بصعوبة بالغة إلى الخلف استعدادا للنزول; كنت أقاوم امواجا هائلة من الناس، كي أتقدّم بخطوة واحدة نحو باب الخروج. فجأة، أثار انتباهي صندوق خشبي ليس بالغريب عني، يحمله أربعة اشخاص على أكتافهم. أصابتني الدهشة ..لم أصدق عيني، فتساءلت مع نفسي: هل أنا على وعي أم سكران؟. تأكدت أنني لم أتناول شيئا يفقد العقل ذاك الزوال
:همس أحد الركاب في أدني قائلا
سمعتهم يقولون أن حارس المقبرة منعهم من القيام بعملية الدفن...إنهم لايتوفرون على شهادة التصريح بذلك. بقيت جامدا في مكاني، ولم أنبس ببنت شفة، ثم أضاف الراكب، الذي كان ملتصقا بي من شدّة الإزدحام وهو ينظر إلى النعش بفضول زائد قائلا: سمعتهم
يقولون كذلك أنه مات، أخيرا، بسكتة قلبية مفاجئة بعد سنوات طويلة من القهر والإستبداد في حق أبنائه وذويه
و كل خلق الله ..إنه يدعى السيد "مسعود"، و الذين يحملون النعش على أكتافهم هم أبنائه.. طالما تمنوا من الزمن أن يعجل برحيله، ويخلصهم من طغيانه وجبروته
الأتوبيس" يتقدم وهو مكدّس بمختلف الأجساد الآدمية.. أياد تقبض بقوة بالمشاجب، وأخرى متمسكة بالنعش خوفا من السقوط أثناء الأهتزاز المتواصل "للأتوبيس" بسبب الحفر المتناثرة على طول الطريق. توقف "الأتوبيس" أمام مستودع الأموات. ترجّل الأشخاص الذين يحملون النعش، وانطلقوا مسرعين في اتجاه المستودع. دفعني الفضول،لمعرفة إلى ما ستنتهي إليه تلك القصة الغريبة الأطوار، بأن أقفز خارج "الأتوبيس" بحركة خفيفة وسريعة غير آبه بالركاب الذين كانوا يعترضون طريقي.. تهاطل عليّ وابل من السب والشتم بسبب حركتي البهلوانية التي أزعجت بعض الركاب . تابعت سيري ولم أعر أدنى اهتمام لتلك الشتائم. انطلقت مسرعا داخل مستودع الأموات. توقف الأشخاص الذين يحملون النعش أمام مكتب الطبيب المختص. طال الإنتظار، ولم يظهر الطبيب المزعوم. تدخل طبيب آخر لحل المشكلة، شرط معاينة الجثة. فوجىء أن الجثة قد أُخد منها القلب والكبد، وبعض الأعضاء الداخلية الأخرى. تفاديا للمشاكل ،من هنا أو هناك، سلم الطبيب للأبناء شهادة التصريح بدفن والدهم. حُملت الجنازة على الأكتاف، وانطلق الأشخاص المرافقين لها، مسرعين باتجاه إحدى مقبرات المدينة.أطلقت بدوري العنان لرجلي، وبدأت في العدو خلفهم. صرخ أحد المارة قائلا: ليس من السنة
التعجيل بالدفن
ردّ آخر: بلى، إنه واجب ومؤكد التعجيل بدفن الميت . تابعنا سيرنا، ولم نعرهما أدنى اهتمام، فقط اكتفيت بالرد عليهما في قرارة نفسي: "لاحاجة لنا بالفتاوي..ادخرا فتواكما لنفسيكما..أو اذهبا إلى الجحيم". بعد مدة لابأس بها، وصلنا المقبرة، وهمّ أولاد السيد "مسعود" بالدخول ، لكن الحارس منعهم من ذلك ،أخبرهم أنه لايوجد داخل تلك المقبرة ولو سنتمتر واحد فارغ يصلح للدفن .. نصحهم بالتوجه الى مقبرة حديثة العهد توجد خارج المدينة. حمل الأبناء،من جديد، الجنازة على أكتافهم، وانطلقوا مهرولين الى المكان المحدّد. هرولت بدوري ورائهم ..كان التعب قد بلغ مني مبلغه، وتمنيت من أعماق نفسي أن تنتهي تلك القصة التراجيدية في أسرع وقت ممكن، كي أعود إلى الجامعة للإشتراك في المحاضرة المرتقبة ذاك اليوم
أخيرا، وصلنا المقبرة التي دلنا عليها الحارس.. نجح أبناء السيد "مسعود" هذه المرّة في إيجاد قبر لوالدهم
وُري جثمان السيد "مسعود" وانتهى أمره، لكن بقي قلبه بكل مكنوناته.. بما فيها ذاكرته.