صفقة رحيمة
الجزء الحادي عشر
من يوميات بلا أسرار في المخيمات
نسيبة بحرو
يرقبها من بعيد .. يشتهيها فيقترب ، ثم يتذكر أن لا فائدة من الاقتراب ولا أمل بنيل المراد فيبتعد ، يشيح بوجهه بعيداً عنها ويشغل نفسه تارة بالجري واللعب .. وتارة أخرى بتعداد الخيم الممتدة أمامه على مرأى البصر ، فيتمنى لو أن لديه مما يشتهي ما يقارب هذا العدد .. ثم يلتجئ إلى رمال الأرض فيرسم عليها أمنيته المتمثلة بقطعة من الحلوى اللذيذة التي سرعان ما تتطاير بإنجراف حبات الرمل مع تيار الهواء .. فيتلاشى خياله المرسوم ويعود مرة أخرى إلى مرارة وحرمان الواقع ..
صورتها تشغل تفكيره ومذاقها لا يفارق مخيلته .. ورغم كل ما يبذله من جهد لتجاهلها وكبت أمانيه بالحصول عليها ، إلا أنه لم ينجح في نسيانها بأي حال من الأحوال .. سيما وأنه يراها هنا وهناك بين أيدي بعض الأطفال ممن حصلوا عليها بينما لا زال يتمنى ، يقترب ويبتعد ..
هذا هو حال طفل من أطفال المخيمات التركية ، منذ أن قام أحد اللاجئين بفتح ركن صغير لبيع الحلوى سعياً منه إلى تأمين ما يكتسب به الرزق أثناء مكوثه في المهجر ..
وبينما من البدهي أن يكون هذا الركن مصدر سعادة للأطفال كما في الأحوال الطبيعية ، إلا أنه كان بعكس ذلك في المخيمات عند الكثيرين منهم ، كهذا الطفل .. فهو من أسرة ميسورة الحال ، اضطرت كغيرها من الأسر الى ترك كل شيء خلفها والنزوح بما قل ، فأصبحت عاجزة حتى عن دفع ثمن الحلوى البخس ..
وحين كان الطفل يرقب الحلوى ، راقبته والدته بحسرة وفي قلبها غصة من عجزها عن تلبية مطلبه البسيط في ظل أوضاعهم القاسية ، تذكرت الأيام التي سبقت النزوح ومقدرتها آنذاك على أن تشتري له أنواع الحلوى فتقدمها له متى شاء ، وكيف أصبحت عاجزة في ظروفهم الراهنة عن شراء قطعة واحدة لمرة واحدة ..
لم تحتمل شعور طفلها بالحرمان ، ففكرت وفكرت حتى اهتدت الى وسيلة تمكنها من الحصول على المال وذلك من خلال بيع شيء من مقتنياتها لسكان المخيمات ..
فتشت الخيمة بسيطة المحتوى فلم تجد ما يصلح للبيع سوى كيس البن الذي حملته معها من سوريا .. ورغم احتياجها له واقتصادها في استخدامه خوفاً من نفاده بينما لا مجال للحصول على مدد منه ، فضلت طفلها على نفسها وقررت بصفقة رحيمة بيع البن مقابل شراء الحلوى ..
وبعد زيارة الجيران والمعارف وعرضه عليهم ، تمكنت من بيعه بثمن مناسب وأسرعت بلهفة الظمآن إلى الماء لتشتري الحلوى لطفلها ، فحققت له بذلك أدنى مطلب من احتياجات الطفولة ..
وهاهو أخيراً يحصل عليها فيلتهمها بنهم ، وتلوح على شفتيه ابتسامة السعادة والرضى .. بينما وفي الجانب الآخر من المخيمات ، ترتسم ذات الابتسامة على وجه نور ابنة الثمان سنوات حين تمكنت من الحصول على أقراص الخبز وبعدد أفراد أسرتها ..
تحمله بيديها الصغيرتين وتسرع به الى الخيمة بسعادة كبيرة ، وياله من موقف عجيب يصعب تصنيفه !! حيث تخلت نور عن ساعات اللعب والطفولة لتجلب الخبز إلى أسرتها ، احساساً منها بالمسؤولية والواجب والدور ، بينما كان الاكتراث بالخبز هو آخر ما يشغل تفكيرها قبل أن تسكن المخيمات ..
قد تندر الصفقات الإنسانية .. إلا أنها في سورية العزة تكثر وتزدهر ، حيث تنتجها المواقف المشرفة في ثورة الكرامة ، ومن أبطالها وأطفالها نتعلم ..