انشقاق...
(قصة من وحي ال
!!...)
ابتسام سردست
سوريانا :
بتثاقل فتح
عينيه ...
الحمدلله
على السلامة .. قال شاب فتي بلباس عسكري , و ابتسامة صافية.
أين أنا؟ ..
أنت هنا بيننا .. نعتني بك .. استرح .
ابتسم .. و
غاب ثانية .
من أنا ؟ ..
و من هؤلاء ؟ .. كل ما يتذكره ضوء شديد ينبثق في ليلة حالكة .
آلام في
صدره و أطرافه تمنعه من الحركة ... يد حانية لامرأة مسنة تسنده ليرفع رأسه و بيدها
الأخرى تحاول أن تطعمه قليلا من الحساء .. هيا أفتح فمك يا حبيبي ليقوى جسمك. هذه
والدتي أم عبدلله .. قال الشاب .. و أنا أسامة ابنها الأصغر .. وجدناك أنا و الشباب
ملقى عند التل القريب فأحضرناك إلى هنا لنعتني بك.
نظر حوله ..
غرفة بسيطة و هو ممدد على مرتبة .. إلى جانبه يوجد ضمادات و أربطة .. و بعض الأدوية
و الحقن .
أغمض عينيه
.. لكن عقله بدأ يستيقظ .. صور شتى متداخلة تلف مخيلته .. فتاة جميلة .. جنود بلباس
عسكري .. نساء .. أطفال .. صراخ .. ضوضاء ... ثم انفجار .. ثم لاشيئ .
تتداعى
ذاكرته .. فيلتقطها .. يحاول أن يتذكر ..
يتذكر ...
حسين حبيبي
.. لا تتأخر .. عينان براقتان بلون الفستق الأخضر تنظران بلهفة .. يده تحتضن يدها
.. أستشتاقين إلي ؟ كيف لي أن أتأخر و عيناك تأسراني ! .. سأعود و نتزوج .. أعدك
... إن هي إلا بضعة أسابيع .. سأنهي خدمتي ... و سأعود.
يتذكر ..
مضى أكثر من عام و لم يعد .. كان خيال ميسون يوقظه في تلك الليالي المظلمة.
ميسون كأرضه
الطيبة .. يحبهما معا .. كلتاهما تجذبانه ليرتوي من ينبوع ذلك الحب و الانتماء .
يتذكر ...
أهل قريته
.. أناس طيبون كرماء .. يحبون وطنهم .
قرى عديدة
تحيط بقريتهم .. أناسها مختلفون عنهم .. لكنهم كانوا دائما يشعرون بأنهم أخوة ..
الأفراح و الأحزان كانت واحدة .. يتذكر .. شيئ ما اختلف منذ عام .. و نيف !! ..
ثمة خوف ....
يتذكر ...
ثكنة ..
الكثير من الجنود يتناولون الطعام في قاعة كبيرة .. كان هناك تلفاز يبث .. أقنية
عدة تبث تجمعات لأناس يهتفون .. نريد الحرية ... أيام مضت قبل أن تلغى القنوات
ليشاهدوا قناة واحدة فقط ... أخبار عن مسلحين و عصابات ... و طائفية.
هكذا إذا ..
بدأ يتذكر...
سنقاتلهم
... يريدون تخريب البلد
..
هو و رفاقه
جند لهذا الوطن .. و سيتصدون لمحاولات التخريب ... تتراءى له صورة رئيسهم يقول ..
قاتلوا .. هذا وطننا و سندافع عنه ... أقتلوهم جميعا .
يتذكر ...
ساحة مليئة
بالشباب .. و الأطفال .. يرقصون و يغنون .. و كأنهم يحتفلون بعرس .. ماذا يرددون ؟
.. حرية .. حرية.
أوامر أعطيت
لهم .. أطلقوا النيران .. أين هنا ؟!! .. نعم . هؤلاء عزل .. أين أسلحتهم ؟ ..
نفذوا الأوامر ... نفذوها ... هكذا تعلموا أن يطيعوا أوامر رؤسائهم ... لكن !! ..
وابل من
رصاص اخترق أجسادا يانعة كانت تهتف و تغني فقط ... و تحولت ساحة العرس إلى ساحة
تسيل فيها الدماء .
حينها أدرك
و رفاقه أنهم مغيبون و أنهم يقاتلون أخوانا لهم ... أبناء من وطنهم .. ينادون
بالحرية ... فقط .
لم يكن هناك
أسلحة ... إذا كانت ثورة من أجل الحرية ..
يتذكر ...
تلك الغارات
التي كانت كتيبته تقوم بها على قرى و مدن وطنهم .. يحاربون فيها الإرهاب و العصابات
المسلحة .. كما قيل لهم . هو و رفاقه قتلوا الكثيرين ..
أمجد .. كم
يفتقده .. صوب أمجد بندقيته عاليا نحو الشمس .. من خلفه كان قائدهم يراقبهم .. صمت
يتلوه طلقة .. قُتل أمجد.
هكذا إذا ..
يتذكر ...
فراس الذي
قال له يوما ... إن لم نقتلهم سيقتلونا .. إنهم لا يحبوننا .. نحن الأقلية ..
يريدون القضاء علينا ... قال له نحن ندافع عن طائفتنا ...
يا للطائفية
كيف أصبحت ملاذنا و ملجأنا ... بعد أن كان الوطن ذلك الملاذ ...
يتساءل ..
إذا كيف بقينا طيلة هذا التاريخ أخوة ؟... كان دائما يشعر بأنهم شعب واحد .. وطن
بفسيفساء جميلة بديعة ... كانوا في وطنهم دائما مثالا للتعايش و الانسجام ... ماذا
حدث لتتغير هذه الصورة الجميلة فجأة ؟ ...
يتذكر ...
هجومهم على
الأحياء السكنية و دباباتهم التي كانت تطلق قذائفها باتجاه الناس الآمنين ... و
العربات التي كانت تقل رجالا تخالهم و قد خرجوا من إحدى تلك الأساطير .. كانوا
مدججين بالبنادق و السكاكين ... يتذكر مجازرا ارتكبت .. كان شاهدا عليها ... نعم ..
يا إلهي ... لا يريد أن يتذكر ...
لكنه رغما
عنه ... الآن يتذكر .. يتذكر تلك النسوة ... و قد أطلقن صيحات الاستغاثة و الرحمة
... لكن المدججين اغتصبوهن و قتلوهن مع أطفالهن بلا رحمة ... يا إلهي .. إنه الآن
يتذكر ... أقلب انسان داخلي ؟ ... أم من كنت حينها ؟ .. كان شاهدا حينها ... حبيبتي
ميسون ... أتغتصب أيضا ؟.. و تقتل ؟ ..
دمعته ...
حبسها رغما عنه ... إذا رأى القائد دموعه سيتهمه بالخيانة ...
صدق للحظة
.. قبل عام و نيف أنهم حماة الديار ..
فإذا بهم
حماة جاه .. و سلطان ...
يتذكر ...
رفاقا لهم
... فروا هاربين ليلتحقوا بمن سيحمون الديار ..(إنهم خونة و سنقتلهم !..) بعضهم قتل
أثناء محاولات الهروب .. و ماذا عنه ؟.. لا يتذكر أنه تجرأ على الالتحاق بهم .. يا
لجبنه إذا ! ... يا للعار الذي لحق به ! ..
يتذكر ..
كيف تحولت
الأمور إلى معارك حقيقية بينهم و بين رفاقهم المنشقين .. نقاتل رفاقنا الذين
شاطرونا آمالنا و أحلامنا يوما ما .. هكذا إذا ...
إنه يتذكر
... و يتذكر ..
كيف قامت
المعركة الأخيرة .. قيل لهم إنها الفاصلة و سيدحرون كل من يحارب الوطن و المواطن
... أضربوا بيد من حديد ... اقتربنا من النصر ...
كيف سيصف
نفسه لأولاده يوما ؟ .. بطل .. و أي بطل ؟ ! .. دافع عن تراب بلاده ! .. دافع عن
الحرية ! .. عن الوطن ! ..
كان الخوف
يلازمه ... و شعور طاغ بالذنب يمنعه من النوم ... يداه الآن ملطختان بالدماء ... يا
للعار ... كم يتمنى أن يموت الآن. نعم لقد كانت معركته الأخيرة ... في تلك الليلة
.. يتذكر ذلك الضوء الباهر ... و سقوطه إثر إصابته ... مد يده حينها يستدعي رفاقه
طالبا النجدة ... و غاب بعدها ... لكن صوتا لا يستطيع أن ينساه قال .. أتركوه ...
لا نريد بين صفوفنا مصابين ... كان رئيسهم .. هكذا إذا ... سيكون جسده طعاما للذئاب
...
يخبره أسامة
... وجدك رفاقنا بعد تلك المعركة و تعرفوا عليك .. فأحضروك لنعتني بك .. إنهم
يتفهمون مدى الضغط النفسي الذي كنتم تتعرضون إليه ... نظر إليه حسين بامتنان .. إذا
كنت لأموت لولا رفاقي القدامى ... المنشقين .
صمت أسامة
.. و ربت على كتفه .
لم يعد حسين
يخشى أن تدمع عيناه .. فلتنهمر الدموع الآن حزنا على ما ارتكب و ما كان شاهدا عليه
.. لم يعد يخاف دموعه بعد الآن .. ها هم رفاقي و قد عدت إليهم .. ها نحن أخوة من
جديد .. وطن واحد يضمنا جميعا ... و سنحميه بكياننا.
سأل حسين ..
هل تقبلون بي منشقا بينكم .. ابتسم أسامة و ربت على كتفه ثانية ..
أغمض حسين
عينيه ليأخذ غفوة أخرى ...
فقد آن لذلك
النورس أن يعود إلى موطنه من جديد ...