أحلام تلاشت مع الريح

أحلام تلاشت مع الريح

نايف عبوش

خرج على غير عادته دون ان يرتدي عباءة الصوف هذه المرة،ربما لأنه احس بأن الجو كان صحوا هذا الصباح، فالشمس اشرقت بقرصها الباسم وهي ترسل أشعتها الذهبية،لتنعكس على حافات أحلامه،ازاهيرامل واعد،فيحلق بخيالاته بعيدا في فضاءات البرية،متناغما مع نسمات صباح ذلك اليوم النيساني الجميل.اخذته نشوة اجواء الربيع الخلابة،فسرح بنعاجه ومعزاه سابلا حافي القدمين،وهو الذي اعتاد ان يمتطي حماره كل يوم،ليتفادى التعب،ويحمي قدميه من اذى احراش الطريق.

 تتبع المرعى عكس حركة السيل بوادي الغدير،الذي طفحت مياهه بمزن ليل امسه الثقال،لكي لا يجرفه وماشيته،حيث بهره الكلأ،وأدهشته الاعشاب والاحراش مما تأكل الانعام،فوق كتف الوادي. 

 اندفع في أعماق سفوح الشعاب المجاورة،وتغلغل في أحراشها الغناء،لترتع غنمه،وهو يتلفت ثم هناك الكمأ الوفير،ليجنيه بيده دونما حاجة للاستعانة بعصاه.وما كاد يردرد غترته على جانبي رأسه بكلتا يديه النحليتين،استعدادا للعزف على نايه الذي استله من جيب دشداشته المتهرئة،حتى تلبدت السماء بالغيوم فجأة،فاختفت الشمس على حين غرة،وأدلهم المزن،وبدأ الرعد يقعقع،والبرق يومض.هطل المطر بغزارة،وكادت العاصفة ان تطيحه في قعر الوادي،فأفسدت عليه نشوته،وضاقت عليه الأرض بما رحبت..لكنه تسلل بصعوبة الى شق كهف الاخدود الشعبي قبالته،ليعصمه من المطرالذي بلله بالكامل،وتسرب الى جسده النحيل،فاقرصه بردا،وبدء يحس برجفة مصحوبة بسعال خفيف.

اشتدت العاصفة من جديد،وتواصلت دمدمة الرعد،وراح سنا البرق يلمع بلا انقطاع حتى كاد يخطف بصره.تلفت مرتبكا، ينظر الى دوابه وهي تتخطاه متجفلة الى اعالي الوادي،تتقدمها عنزته الشامية،والجرس يرن في رقبتها بنشاز من هول قفزها السريع.. دوت صاعقة اخرى كادت تحرق ما حوله من الزرع والكلأ،لو لا ان تداركه لطف الله .. لم تمهله السماء طويلا،فصعقت ثانية، صوب الاكام المقابلة للقرية بعيدا عن شياهه،فانهمر السحاب الثقال مطرا مدرارا ممزوجا ببرد،كأنه جلاميد قرميد مقذوفة بمقلاعه التي دأب ان يصطاد به طير الدراج،ما اعاقه من العودة الى القرية ظهرا للحلبة الثانية،فهذا موسم نهار الحلبتين.

حمد الله ان صرف عنه المزن حواليه، بعد ان تمتم بدعائه اللهم حوالينا ولاعلينا،غير ابه بما فاته من حلب وجبة الظهر،اذ سارع للخروج من شق الكهف،وساق غنمه صوب التل المقابل،الذي كان قد جف للتو من ماء المطر،وانتفشت اعشابه،وتفتقت براعم ازهاره.

 نظر برهبة الى السماء وهي لا تزال متلبدة بالسحب،وعندها هبت الريح الغربية فجأة لتسوقها بعيدا عنه.. راحت الغيوم تجر أذيالها،بعد ان أفرغت ماءها،وبدأت الشمس تغذ سيرها على عجل نحو الغروب،تاركة حزمة من اشعتها الذهبية تنساب في الافق البعيد،تضفي لمسة سحرية على ذلك الكون الفسيح.عندها قفزت الى ذهنه مجددا ذكريات جميلة،وأحلام وردية كتلك التي بدأ بها مشوار صباحه،لكن الزوبعة بددتها.وسرعان ما توارت احلامه خلف غروب شمس ذلك النهار التعيس هذه المرة،الذي خمن انه سيكون مخمليا،لو لم تنغص العاصفة عليه سعادة يومه هذا،لتتركه في وحشة ظلام زاحف على عجل،فيودع يوما مكتضا بعاصفة الأمل والآلام،متطلعا الى صباح يوم اخر جديد،يحسب انه سيمرعليه بهدوء،دون ان تعكر صفوه عواصف هوجاء، تطيح بأحلامه الوردية مرة اخرى.