خلاصة الحياة

خلاصة الحياة

نبيلة عيلان

ترتشف آخر جرعة من كأس قدرها ، جاحظة عينيها الواسعتين ، تتأمّل نفسها في مرآة حياتها، تراها تعبر حولها كما لو كانت لحظة واحدة أو بضع لحظات . تداعب شعرها بيديها ثم تخرج من درج طاولة أمامها علبة ماكياج ، تنثر بعض المساحيق على وجهها في هدوء و عجز ، دون أي رغبة في تزيين نفسها للآخرين ، لما تفعل ذلك و روحها يكسوها السواد و الحزن اللّذان طبعا عليها منذ الأزل –لكن اليوم جميل ، يوم تنتظره كل الفتيات – لكنها أبدا لم تنتظره ، صغيرة جدّا حتى تفكّر في الزواج ، صغيرة جدا و أحلامها أكبر ، رغباتها أكبر.

 تقول في صمت محدّثة نفسها

"سحقا للقدر ، سحقا للحياة كلّها ، أكان عليّ أن أولد وسط عائلة متخلّفة تدفن الفتاة و هي حيّة ، سحقا للزمن ، ألم يكن من الأحسن أن أموت قبل رؤية هذه الدنيا التي لا تعطي الحق إلّا للرجل ، و لا مكان للنساء فيها ، سحقا لكلّ شيء ".

تتنهّد ثم تنظر مرّة أخرى إلى المرآة بمسحة حزن تضيف ..

هي النهاية ..نهاية كلّ شيء نهاية أحلامي ، نهاية آمالي و طموحاتي ..و بداية اللّاشيء ليتني أستطيع إيقاف الزمن ، ليتني أستطيع أن أسرق من اليوم لحظة واحدة ، لأجعلها ملكي وحدي ، و ليس ملكا للآخرين .. لكن قطار الزمن لا يتوقف ، الماضي و الحاضر لم يكونوا لي ، و لم أعد أملك مستقبلا ، باتت حياتي ملكهم كما استوطنوا عليها في الماضي .

اغرورقت مآقيها بالبكاء ، تنزل من عينها دمعة تدلّ على انكسارها كامرأة في زمن القرن الواحد و العشرين ..تعبر بيدها على وجنتها و تسحب الدمعة من عليها في خجل و هي تسمع قرع الباب ، وكأنها تخجل حتى من دموعها و من آهاتها ، تدخل والدتها و هي تقول ألم تنتهي بعد من تحضير نفسك

 تواصل حديثها و هي ترفع الفستان من على السرير

 ألم ترتدي فستانك الأبيض ، ما الذي تنتظرينه ..؟العريس وصل منذ زمن و الناس تنتظر ..

 بقيت صامتة ، تدير ظهرها لأمها التي تقف مشدوهة مشرعة سلاح العتاب و الانتقاد ضدّها، تودّ لو تصرخ طالبة منها الصمت ، متوسّلة لتتركها لحظة أخيرة مع نفسها ،وحدها دون أن يشاركها أحد ، فقط هذه اللّحظة ، لكنها ..حتى في هذا اليوم هي مجبرة على التزام الصمت ، كما كانت مجبرة على ترك دراستها و التعفن في البيت لإرضاء نزوات والدها وحتى لا تخرّب بيت والدتها التي تعبت كثيرا لبنائه .. رغم أنها بقيت حائرة طوال حياتها متسائلة نفسها نفس السؤال دون أن تجد له إجابة ، أي بيت كانت تتحدّث عنه والدتها في ذلك اليوم الثائر الكئيب ، ربّما بيت غير البيت الذي تربّت و قضت أسوأ أيام عمرها فيه أي بيت ..؟ البيت الذي لا تعرفه أم الذي تعرفه ، الذي كانت تصبح و تمسي فيه بالضرب و الإهانات ، ترى لما لم تستلم والدتها ؟ لما لم ترمي السلاح و تترك كلّ شيء وتجمع ما تبقى من فتات كبريائها و كرامتها ..؟ ترى لما بقيت متمسكة بوالدها رغم الحرب المعلنة بينهما لمدة 25 سنة ، عمر طويل بالنسبة لامرأة ، حرب عنيفة للحب .

 لم يعد كل هذا مهما اليوم ، ما تتذكره في هذا الوقت بالتحديد ، هو والدها الذي كان منغمسا في قوقعة العادات و التقاليد ، التي فصّلوها على قياسهم ، كان يقول دوما بصوته الخشن الرّهيب

 المدارس للرّجال ، أمّا الفتيات مكانهنّ البيت قبل أن تنتقلن إلى ديار أزواجهن ..هي سنة الحياة ..

 أيّ سنة هذه التي اختاروها وفقا لأهوائهم و انفعالاتهم المتطرّفة و العقيمة . و أيّ قاعدة تلك التي يتقيّدون بها و يحكمون على الأشياء بغير دراية و لا معرفة .

عبرت فجأة بين أفكارها المتشتّتة ، ذكرى مؤلمة ،حين دخل عليها والدها يوما ، وهو عائد من عمله ، بينما كانت تجلس هي على بساط من صوف تكتب وظائفها اليومية ، اقترب منها كوحش مفترس و هو يقول

لا تجهدي نفسك ، الدراسة بالنسبة إليك كانت فقط لتعلّم كتابة اسمك و التوقيع ، فقريبا جدّا ستوقّعين عقدا ، يجب على النساء المحظوظات مثلك أن تمرّ عليه في حياتها ..اغلقي إذن كتبك و ضعيها جانبا ، لن تحتاجي إليها بعد اليوم ..

كان ذلك آخر يوم تذهب فيه إلى المدرسة . لكنّها لم تع حينها أنّها في ذلك اليوم قد وقّعت على عقد اغتيال كل طموحاتها و آمالها ، لم تع أن تلك اللّحظة هي بداية حداد أحلامها ..لم تع ذلك إلّا اليوم .

 تنظر إلى والدتها التي تجلس على حافة السرير، تداعب الفستان الأبيض ، كأنها طائر مكسور الجناح . ترمقها بعيون حزينة ، و قلب مليء بالكثير من المرارة و خيبة الأمل واليأس ، بعد لحظات من الصمت تقول

 أمّي ..

ترفع والدتها عينيها المثقلتين و كأنها تحاول التهرّب من ابنتها ، متفادية التقاء عينيهما .. تواصل بسؤال لم يكن متوقّعا ، سؤال يفجّر طوفان الحياة في لحظة ، و قد فجّرت قلب والدتها في برهة .

لما تخلّيت عنّي ..لما تركت أمواج الحياة تأخذني و تأتيني ؟ هل أتيت اليوم لتسدلي الستار على مسرحية عمري ، كتبتها أنت ووالدي و أخرجتماها معا ، و اليوم وصلنا للنّهاية ..

تنظر إليها والدتها بعيون منكسرة ..وصل كلام ابنتها في عروقها مثل الخنجر ، أو سيف حاد ..تنهض من مكانها و تقول

أسكتي ..أنت لا تعرفين معنى الحياة ..أنت لا تشعرين بمدى حظّك اليوم ، الكثيرات من الفتيات في عمر سنّك يحلمن بأن يكننّ اليوم في مكانك ، يرتدين مثل هذا و يفتح لهنّ قصرا من قصور الجنّة ..احمدي ربّك و ارتدي ثوبك الآن، يكفيك تخاريف

هل تعلمين ما كان حلمي في يوم من الأيام ، كنت أحلم الرّقص و اللّعب مع النّجوم ليلا وأعانق الشّمس في النّهار ..لكن ذلك حرام في قوانين العادات و التقاليد ، لكن ذلك خروجا عن الطّريق .هل سألتم أنفسكم يوما كم من طريق للإنسانية عدلتم عنه دون أن تحاسبوا أنفسكم عليه ، لكنّكم أسياد و نحن عبيد ، ملزمون اتخاذ مسلك حتى و إن كان مليئا بالأشواك فقط لأنّكم أردتم ذلك .

أسكتي ..لا تفضحينا ..والدك واقف خلف الباب

لما تخافين منه ..أ لأنّه يطعمك ، فلديه الحق أن يذلّك

سوف تفهمين كل شيء عندما تمضين حياتك مع زوجك ..

ما الذي أفهمه أمّي ..؟أننا أصبحنا نحن النساء عبيدا لبشر مثلنا ..و أنّنا مستعبدات من قبل جنس غير جنسنا ..لا تقلقي فقد فهمت كل شيء ..لا احتاج إلى الزّواج لأرى الذلّ و المهانة و قلّة الحيل التي تحيين به يوميا ، و بدأت أدفع ثمنه أنا منذ سنوات ..

تمرّر على جسدها النحيل الفستان الأبيض ، تساعدها والدتها على قفله ..تدور مقابلة والدتها و تقول

أمّي ..لدي طلب غال علي ..انتظرته عمرا كاملا ..و اليوم أنسب يوم لذلك

تتأملّها والدتها باستغراب ..تهمس بكلمات متخوّفة من الآتي

_قولي يا ابنتي ..

ترتمي في أحضان والدتها ، و تقول

_عانقيني ..عانقيني بقوة ..و دعيني أنسى أنني ولدت و حيدة و كبرت وحيدة ، أنسى أنّني امرأة مرفوضة في المجتمع ، دعيني أعوّض سنوات حرماني منك ، دعيني أشمّ رائحتك التي وفّرتها لإخوتي الصبيان متجاهلة لوجودي ..عانقيني حتى و إن كان ذلك آخر عناق ..

_لا تقولي ذلك يا ابنتي ، أنت لن تسافري إلى نهاية العالم ..سوف نزورك دوما ..وعد مني تنظر إلى والدتها التي كانت تمسح دموعها و تقول بصوت ثقيل و متعب

_أنا متأكّدة من أنّك سوف تزوريني .

 يُفسد عليهما خلوتهما الأولى ، بعد سنين من الشغف و اللّوعة ، واقفا على العتبة دون أن يقرع الباب حتى ، ذلك الذي كان والدها يوما و هو يقول

_ما الذي تفعلانه هنا ..ألن ينتهي هذا اليوم ..

_ترشقه بنظراتها و كأنها تعيش بقايا أضغاث و تهمس

_لا تقلق سينتهي ..سينتهي ..

 يخرج والدها تاركا الباب مشرّعا ..تتبعه والدتها في صمت ..تمرّ آخر عبرة أمام المرآة لتلملم ما تبقى من شتات عمرها ، ثم تخرج مرتجلة الخطى ، تاركة حياتها الأخرى خلفها . تقترب من سلالم الفندق حيث يقام الاحتفال و يتواجد المعازيم ، خلفها يقف والديها . يسير العريس المعهود بضع خطوات نحو الأدراج مادا يده و هو ينظر إليها مبتسما ..الجميع يتأمّلها ، يتهامسون –أخيرا ..إنها جميلة ..الفستان رائع ..إنها محظوظة – ترسم على شفتيها ابتسامة خفيفة ، تتأمّل والديها ..تتعانق عينيها مع عيني والدها لأوّل مرّة ، يسحبها مديرا وجهه متجاهلا ابتسامتها .

 تنزل خطوة شامخة الرّأس ، ترفع عينيها إلى السماء ، لكنّها تتعثر مع الأدراج ، تقصّ حكايتها مع أحلامها الطفولية البريئة ، التي بقيت رهينة العادات و التقاليد ، استسلمت لها في النهاية ووقعت عقدا أخيرا مع حياتها .

 بقي الجميع مشدوهين متجهمين ، ينظرون إلى الأرض هنا تستلقي ، هناك تتلقّف نفسها الأخير ، تحت قدمي زوجها أو الذي كاد أن يكون زوجها ، لكنها وقعت كحمامة بيضاء غرّ بها الصّياد و لم تقع ذليلة تحت أقدام الرّجل الذي اختاره والدها على مقاسه و حسب مصالحه .

 الجميع مستسلمين للحادث ، يحومون حولها و كأنهم منوّمين مغناطيسيا ، يحدّقون بها في صمت . لم تغب عن شفتيها الابتسامة ، و كأنها تعمّدت أن تكون نهايتها أجمل من عمرها الضائع، و أن يبقى هذا اليوم خالدا ، مختصرة حياتها بابتسامة .