اللمبي الجديد

اللمبي الجديد

يسري الغول*

[email protected]

كادا أن يفقد بعضهما الآخر ويفترقا إلى الأبد، فيخرج هو إلى المجهول، وتعود هي إلى شبق الحياة، لأنهما باختصار، لم يعودا يطيقان حالة الهذيان المتلبسة جسديهما تحت قسوة وتعذيب الحياة.

في آخر شجار لهما، أقسم بالطلاق ثلاثاً ألا يعود إلى منزله المشئوم، لأنها أخبرته بكل صلف أنه لم يعد الفارس ذا الجواد الأبيض الذي طالما حلمت به، فأيقن أنها تنام مع غيره في أحلامها، وترسم صورة لرجل آخر، أشد فحولة منه، وربما يمارس معها الحب على سريره أيضاً، وظل قرار الطلاق ماثلاً بين أنيابه بينما يبادل صديقته نادلة المقهى همومه بحزن فتربت الأخيرة على كتفه بحنان، تفكر في حل لمعضلتهما تلك، تستعيد بعض الأحداث من أفلام الرومانتيك والمسلسلات التركية التي تشاهدها، تبحث في أغوارها إلى أن تقع في مخيلتها صورة (اللمبي) وهو يسقط عن الشجرة مرات عدة من أجل عيون حبيبته التي اختفت بعد ذلك الفلم ولم تعد تراها، فتضحك جازمة بأن حالة السيد (لمبي) قد تخرجهما من حالة الاصطدام، دون أن تبلغه النادلة بأن تلك الفكرة لم تكن حديثة الصنع، أو أن نهايتها قد تكون غريبة كفكرتها. 

صبيحة اليوم التالي، استنشق مع بزوغ أول خيط من خيوط الشمس عبق الحياة، ثم خرج كعادته يمارس روتينه القديم، يجري على الكورنيش، ثم يحصل على جرعة حمام ساخنة، ثم يتوجه لتناول طعام الإفطار في أحد المطاعم القريبة من شقته، ويمضي إلى مكتبه/ مكتبها في العمل، وبين يديه باقة من الزهور، وقبل أن يدلف إلى مكتبه، يطلب من الفراش أن يبلغها بأن عميلاً لديه معاملة ويرغب في الحضور لمكتبها لبعض الأمور الهامة، فتوافق كالعادة، وحين يدلف إلى مكتبها، تأخذها الدهشة والحيرة، يقف أمامها طويلاً وهي متسمرة دون أن تنبس ببنت شفة، يسأل:

-       هل لي أن أجلس؟

تضحك، تضحك كثيراً، تجيب:

-       تفضل.

بابتسامة ماكرة، يقول:

-       أنا عارف محمود، عفواً أنا فارس الأبيض، مواطن عربي.

تطفر دمعة دافئة، والضحك يجلجل في الغرفة:

-       هل عدت إلى جنونك من جديد؟!

-       عفواً، ماذا تقصدين؟

تفكر لحظتها أن تمارس معه اللعبة كما يريد، وأن تستمر في حوار علّه يبدد حالة الاختناق التي أحالت وجهها إلى مفترق للتجاعيد.

-       آسفة، ظننتك زوجي (تضحك).

تتابع:

-       تفضل، هل من خدمة أسديها لك؟

-       نعم، أنا، أنا بصراحة، (وكأنه متوتر) مذ رأيتك هنا لم أعد أدرك شيئاً غير وجهك الوضاء.

تبتسم، تتمتم لنفسها:

-       يبدو أنه يريد أن يخدعني بطريقة جديدة، و...

-       عفواً

-       آسفة، لقد سرحت قليلاً.

-       لا عليك، لكن هل تقبلين مني باقة الزهور؟

-       بالتأكيد، أشكرك على ذلك، لكن أخبرني.

-       تفضلي (وفي عينه حالة من الهيام، كأنه يجول في أروقة عالم آخر).

-       من قال لك بأنني أحب اللون الأبيض؟

-       هكذا ظننت، لأن قلبك ناصع البياض.  

-       غريبة، إن زوجي لم يلتفت لذلك رغم أننا متزوجان منذ أكثر من عشرة أعوام.

-       وهل أنت متزوجة؟

-       نعم، لكننا على وشك الطلاق.

-       هل لي أن أعرف السبب؟

-       يبدو أنك فضولي... ربما سأخبرك يوماً ما.

-       إذن، هل تسمحين لي بدعوتك على الغداء اليوم؟

تضحك، "هو لم يدعها لتناول طعام الغداء مذ عملا معاً في هذا الفراغ".

-       بكل سرور، لكن ألا تخشى زوجي.

-       لا، فأنا حين أكون معك أشعر بأنني قوي.

تبتسم، ترتسم على وجهها علامات الرضا:

-       إذن نلتقي بعد انتهاء العمل الساعة 2:30 مساءً.

-       بالتأكيد سأكون بجوار المبنى في 2:25.

-       اتفقنا إذن، تحياتي لك يا صديقي الجديد.

تتابع والابتسامة ما تزال مطبوعة على شدقيها:

-       عفواً لقد نسيت اسمك.

-       فارس، فارس الأبيض سيدتي.

ينصرف إلى مكتبه، يمارس رياضته بالتوقيع على الأوراق ومتابعة شؤون الموظفين جميعاً، وهو ينتظر انتهاء الدوام بفارغ الصبر. وقبل أن يخرج أي من الموظفين يكون بانتظارها في الخارج، بعربة جديدة استأجرها لتوه، ذات لون أحمر، وحين تخرج، تسأله غامزة:

-       من أين لك هذه السيارة؟

-       إنها لي، أو بإمكانك اعتبارها لك؟

-       يبدو أنك كريم جداً، حتى على من لا تعرف؟

-       لا، أنا أعرفك جيداً، فأنت تراودينني في أحلامي ويقظتي.

-       ألا تخاف من أن أثور في وجهك، فأنت تهين زوجي بذلك.

يضحك:

-        إن زوجك ورغم أنني لم أره، لم يقدر النعمة التي بين يديه، فلو كنت مكانه لاحتفظت بك على الدوام.

هامسة:

-       لا أعتقد ذلك، أيها المخادع.

-       عفواً، سمعتك تقولين شيئاً.

-       لا عليك، كنت أتمتم بأغنية تعودت عليها.

ينزلان من العربة، يسيران باتجاه أحد المطاعم الفاخرة، يجلسان على إحدى الطاولات الفارغة، يسألها والابتسامة تراوده:

-       ماذا تطلبين؟

تطلب وتطلب، كأنها لم تأكل منذ عشرين عاماً، وفي مخيلتها مشاجرة جديدة قد تخلق حالة حب على فراشهما بعد كل ذلك، لكنه هذه المرة لا يفكر سوى بإتمام اللعبة التي رسمتها لهما صديقته نادلة المقهى. وفي نهاية الغداء، يسألها على استحياء:

-       هل لي أن أطلب رقم هاتفك المحمول؟

-       بكل تأكيد؟ لكن ألا تخاف زوجي؟

-       لا، فأنا لم أخفه حين دعوتك على الغداء، فلا أعتقد بأنني سأفعل حين أهاتفك.

-       ومتى ستهاتفني؟

-       متى تحبين؟

-       في أي وقت.. خارج وقت العمل الرسمي.

يطول حديثهما، يجلسان لساعات طوال، ثم يأخذها إلى شقته، ويتركها هناك، فتسأله باستغراب:

-       إلى أين أنت ذاهب؟

-       سأعود إلى بيتي؟

تبتسم:

-       أما زلت تمارس تلك اللعبة؟ يكفي هذا؟

-       أتركك الآن؟ سنلتقي قريباً؟ إلى اللقاء.

يمضي إلى المقهى، وهناك يضحك كثيراً مع صديقته نادلة المقهى، ثم يهاتفها، ويتحدث معها كأنه لم يتعرف عليها قبلاً، يطلب منها بريدها الالكتروني، وفي المقهى يمارس لعبته مجدداً، حسابها في (الفيس بوك) ما زال موجوداً لديه، يدردشان بطريقة لذيذة، يتحدث إليها، يخبرها بأنه أحبها مذ رآها، ويعاود بها ذكرياته القديمة، كيف التقاها، وبما كان يحلم حينها، و..و..و.

هي أيضاً، تحدثت إليه، شكت له زوجها، وكيف تغيرت أحواله في الفترة الأخيرة بسبب ضغط العمل، وماذا تكره منه، وهو يسجل في ورقة كل عيوبه التي تراها بعينيها، وقبل أن ينتهيا من حوار طويل لم يسبق أن استمر بطريقة هادئة كتلك المرة، يطلب عنوانها الذي يعرفه، وحين يصل منزله/ منزلها، يصفر لها، ينادي عليها، وهي تنظر إليه من شرفة المنزل وفي وجهها ابتسامة بنت العشرين، التي سرعان ما تتلاشى بعد أن يحاصره ثلة من رجال غرباء كانوا يقطعون الطريق صدفة، يبصقون في وجهه، يضربونه بشده، يركلونه بأقدامهم، لأنه يعاكس امرأة غاب عنها زوجها، وهي تجري نحوه لتبلغهم بأنه زوجها وليس أحداً آخر، لتكتشف بأن ركلاتهم قد بلغت مبلغاً عظيماً في جسده، ثم تسنده إلى جوارها، يمضيان إلى منزلهما، بينما تفتر شفتاها عن ابتسامة شبقة:

-       الآن، سأريك يا صديقي كيف تحافظ على مملكتي.

تنام، والعتمة تحاصر ليلتهما الحمراء.

               

*عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين