سفير فوق العادة
سفير فوق العادة
محمد جهاد إسماعيل
في الحجرة رقم 168 من المستشفى, وتحديدا، في قسم العناية الفائقة, يرقد ضيفا، جديدا، حل بعد منتصف الليلة الفائتة.
من السهولة بمكان تمييز الضيف الجديد عن بقية نزلاء المستشفى وأعضاء الفريق الطبي .
كان في المستشفى تواجدا، للزنوج والمغول, إلا أنه كان أكثر منهم اختلافا، عن نظرائه من البيض والقوقازيين.
بدا متفردا، ومتميزا، عن الجميع بسحنته العربية الخالصة, وعلاماته الفلسطينية الفارقة. فمه وأنفه يتواريان خلف قمع بلاستيكي, أسلاكا، دقيقة مختلفة، ألوانها, جاءت من شتى الأرجاء وشقت طريقها لتلتصق بصدره, لا يسمع في حجرته إلا صوت الأجهزة, ولا يرى إلا بريق بياناتها الرقمية.
بحلول التاسعة صباحا, وبحسب المعتاد, تأتي النوبة الثانية من الطاقم الطبي لتتسلم مهامها وتباشر العمل, بينما تنصرف النوبة الأولى, والتي تؤدي عملها طوال ساعات الليل.
بدخول الأطباء للمستشفى, شاهدوا الاكتظاظ الشديد للصحافيين والمصورين على البوابات والمداخل.
يستقل المصعد ويتوجه طبيب الجراحات المعقدة إلى أحد حجرات الإدارة, ليستلم من زميله المناوب ليلا، كافة التقارير المتابعة للحالات في القسم.
ألقى حقيبته الجلدية على المقعد المنجد, وجلس على المقعد المقابل, أخذ يراقب سبابة زميله التي تسير فوق الكلمات, مستمعا، لحديثه بشأن التطورات الصحية لبعض الحالات الحرجة. بينما الطبيبان يتشاوران, أطلت برأسها من باب الحجرة ممرضة طويلة القامة, تعلو أنفها نظارة, يميل لون إطارها إلى الزرقة, وقالت:
ـ دكتور ريتشارد... رئيس القسم يريد منك الحضور إلى مكتبه في الحال.
اختلطت بأذنه بقايا الموجات الصوتية الصادرة عن الممرضة مع طرقة الباب عند انغلاقه, ترك فنجان الشاي مملوءا، حتى المنتصف, تناول حقيبته واتجه مسرعا، نحو مكتب رئيس القسم.
نقر على الباب ثلاث مرات, ولج قليلا، ولج بتردد, وقال:
ـ صباح الخير دكتور جوناثان.
ـ أهلا، دكتور ريتشارد, أشار بيده إلى المقعد وقال:
ـ تفضل بالجلوس.
جلس ريتشارد لكنه هذه المرة وضع حقيبته بين رجليه, لم يضعها في مكان آخر, ربما لعدم وجود مقعد شاغر بجانبه, أو ربما احتراما، وتوقيرا، لرئيسه في العمل.
أجرى مكالمة هاتفية ضئيلة بعض الشيء, ثم تفرغ للحديث مع ريتشارد:
ـ لعلك رأيت الصحافة والضوضاء المحيطة بالمستشفى ...
هز ريتشارد برأسه, وقال بلهجة خاطفة:
ـ نعم نعم.
مضى قدما، في الحديث: في الليلة الماضية استقبلنا حاله حرجة لفلسطيني, أصيب في المواجهات الجارية في قطاع غزة.
توقف ريتشارد عن الهز برأسه, وكأن شيئا، من الدهشة أو ربما الصدمة أصابه, فقال:
ـ فلسطيني!!, من قطاع غزة؟
ابتسم جوناثان وقال:
ـ بمجرد وصوله ليلة أمس, أجرينا له جراحة عاجلة, حاولنا إخراج عيار ناري علق في منطقة حساسة في ظهره, أمضينا ثلاث ساعات متواصلة, بذلنا كل ما في وسعنا, لكن الجراحة لم تتكلل بالنجاح.
خفت وطأة الدهشة التي أصابت ريتشارد, فعاد يهز برأسه من جديد, ولكن هذه المرة واضعا، شفته السفلى بين ضفتين من الأسنان.
أردف جوناثان:
ـ نظرا، لثقتنا بك وبقدراتك العظيمة, قررت إدارة المستشفى تكليفك بالإشراف على هذه الحالة العسيرة.
حبس ريتشارد لسانه عن الكلام, سادت المكان برهة من الصمت, فجأة، قال: كيف أعالج فلسطيني؟ أليس هذا الفلسطيني وأمثاله هم من يروعون ويقتلون أصدقائنا الإسرائيليين؟
بنفس النبرة الهادئة التي استهل بها الحوار, قال جوناثان:
ـ هذه الأمور السياسية لا تعنينا في شيء, لا تنسى أن مهنتنا أخلاقية وإنسانية في المقام الأول.
ريتشارد: ولكن...
تدخل جوناثان وأفسد عليه إكمال الحديث:
ـ لكن ماذا؟
هذا الذي تعتبره المعتدي, يبدو من وجهة نظر البعض هو الضحية. لا تنسى يا ريتشارد, الطبيب يطبب, أما الرب فهو من يحاسب.
ريتشارد: حسنا.
ناوله جوناثان ملف الحالة المكتظ بالأوراق والصور التفصيلية, وقال: هذا ملف الجريح, ستكون برفقتك الدكتورة بيثاني وفريق التمريض التابع لها.
دخل إلى الحجرة 168 وبرفقته بيثاني, أصابه نوع من الذهول عند رؤيته للجريح الفلسطيني, لم يتوقع أن يكون بهذا السن, لم يتوقع أن يكون الجريح طفلا.
قبض بجماع يده على رسغ الطفل الجريح, ليتفاجأ بدمائه الساخنة تسري. قال متعجبا:
ـ يا الهي, دمائه دافئة أكثر من صيف لندن.
تقدمت خطوتين للأمام, وقالت بشيء من الفضول:
ـ دعني أرى.
أخذت تتحسس ساعد الطفل, بينما راح ريتشارد يدون في سجله ما يظهر على الأجهزة من بيانات وأرقام.
في جلسة هادئة في باحة المستشفى, وفي لحظة من السرحان الخالص, راود ريتشارد شعور غريب تجاه الطفل, شعر أن شيء، ما يشده إليه, بدأت تتسلل إليه مشاعر غريبة, ربما بدأ يغير موقفه تجاه ذلك الفلسطيني. ربما بدأ يشعر بالندم على ما قاله في مكتب رئيس القسم, تحول وجهه من الأحمر الوردي إلى الأحمر الداكن والمحتقن, حطم كوبا، بلاستيكيا، هزيلا، بأصابعه, اندلقت بقايا المشروب الساخن على ردائه الأبيض, قال مناجيا نفسه, ومعاتبا لها:
ـ لماذا دوما، أنا متسرع؟.
ـ لماذا التسرع؟.
منذ عدة صباحات صار يتوجه إلى المستشفى مبكرا، كثيرا، أي قبل الوقت الذي يذهب فيه عادتا، انتقدته زوجته بسبب شروده الذهني المستمر. تغيرات متزايدة أخذت تطرأ على حياته في هذه الفترة الوجيزة, وكل هذا بسبب الطفل الفلسطيني. ليست زوجته فحسب, بل أيضا، زملائه في العمل بدؤوا يلاحظوا التغير الملحوظ في سلوكه.
جاء يوم العملية الجراحية, نسبة نجاحها كانت ضئيلة, هكذا قال جميع الأطباء, أصر ريتشارد على إجراء الجراحة, تفرد عن الجميع بتفاؤل غريب, تولد داخله إصرار رهيب. تناول أدواته بيديه, استدعى إلى ذهنه حالة تركيز غير مسبوقة, أخذ يؤدي الجراحة المعقدة بمفرده, أما بقية أعضاء الفريق الجراحي, فقد اقتصر عملهم على تجفيف عرقه المتصبب.
مائتي دقيقة من العمل المضني والشاق, كان يفترض أن يؤدي معظمها في حالة من النصب والتعب, لكنه أداها جميعها وبلا استثناء في حالة من التركيز الشديد. عينيه متعبتين, فقرات ظهره متصلبة, انتزع الكمامة الزرقاء عن وجهه, ارتمى على أقرب مقعد, فوق ذلك المقعد, مكث خمسة دقائق, جذب خلالها كميات هائلة من الأكسجين الذي بدا متعطشا، له بشدة.
مشى إلى مكتبه مترنحا، كالعائد من الحانة, وجد بيثاني قاصدتا، نفس المكان, دخلا سويتا، ألقى جسده المنهك على المقعد المنجد فارع القفا, أما بيثاني فوضعت أكواب العصير التي بحوزتها على الطاولة.
ارتشف قليلا، من عصير الجزر والبرتقال, وراح يصغي لحديثها:
ـ الجميع كانوا مندهشين من اهتمامك الزائد بالطفل الفلسطيني, والأكثر اندهاشا، كان الدكتور جوناثان.
أطلق ابتسامة خفيفة, ربما كان الدافع وراءها شيء آخر غير السرور والبهجة, وراح يقول بلهجة هادئة:
ـ أشعر بالندم على كل كلمة قلتها في مكتب الدكتور جوناثان, يبدو أنني تسرعت في الحكم على الجريح الفلسطيني, خلته رجلا، قادرا، على حمل السلاح والقتال, فوجدته طفلا، بريئا، تعرض للوحشية, أطلقت علية النار بلا مبرر, يبدو أنه عاش حياة معاناة, حياة جافة, شديدة الجفاف, تخلو من أحقر معاني السعادة والطمأنينة والهناء.
ضرب يده المضمومة بباطن يده المفتوحة, زفر تنهيدة سريعة وقال بأسى:
ـ الأطفال في سنه تكون حياتهم ملئا بالألعاب, لكن حياة هذا الطفل مليئة بالرصاص, أخرجت الرصاصة من ظهره, وبقيت رصاصة أخرى معلقة في العقد الذي يلتف حول رقبته.
قالت وهي تمسح الأثر اللزج الذي تركه كوب العصير على الطاولة:
ـ يثقب الرصاصة ويضعها في العقد الذي يرتديه, كم هو غريب أمر هذا الطفل, لكن لماذا هذا التشاؤم؟
أجاب ريتشارد:
ـ لا... الرصاصة ليست نذير شؤم بالنسبة لهذا الطفل, بل هي دلالة على التفاؤل, فهي كالأم تماما، تكسبه حنانها, تشعره بدفء الثورة, وتحرضه على الفداء.
عاد ليضرب يديه ببعضهما البعض قائلا:
ـ بنيلي أعلى الشهادات في الطب البشري شعرت بزهو لا يضاهى, اعتقدت أنني أفهم وأعلم الناس, لكن هذا الطفل القادم من بعيد أثبت لي العكس, قال بعصبية:
ـ أثبت لي أنني لا أفهم شيئا، في هذه الحياة.
بدأت تنظر إليه بشيء من التعجب والاستغراب, لكنه استمر في الحديث:
ـ خدعتني جميع شهاداتي العلمية, جعلتني أقف عاريا، في العراء, متجردا، من المنطق والأخلاق, سواء في مواقفي أو تصرفاتي الصبيانية.
ـ أتى هذا الطفل السقيم المكلوم بما لم تأت به الشهادات, تعرفت من خلاله على حركة الكون, تعرفت من خلاله على الظالم الحقيقي وعلى المظلوم.
ـ لطالما خدعنا بإسرائيل, حسبناها دولة الديمقراطية والعدالة, خلناها يوتوبية القرن العشرين وانجازه الأعظم, لكنها في الحقيقة كانت دستوبيا الظلام والظلم والقتل والهدم.
ضرب بجماع يده على الطاولة وبقوة, ارتفع منسوب العصير وكاد يتجاوز حافة الكوب, خرج من عباءة هدوءه, صرخ عاليا:
ـ لماذا يغرر بنا؟ لماذا يستخفون بعقولنا؟ لماذا يروجون لهؤلاء القتلة المجرمين؟
قال واللعاب يتطاير من بين أسنانه:
ـ كان والدي طبيبا، ميدانيا، في الحرب العالمية الثانية, حدثني عن الكثير من الفظائع والمجازر, لكن وبالرغم من عدم معايشتي لتلك الفترة, إلا أنني أكاد أجزم أن فظائع الحرب آنذاك لا تساوي شيئا، من كوارث إسرائيل التي تسببها اليوم للبشرية.
مرت على ريتشارد أيام عصيبة, وهو يراقب عن كثب وينتظر بفارغ الصبر. كان جالسا، في مكتبه حين جاءته أحدى الممرضات, لتزف له البشارة:
ـ أفاق أحمد من الغيبوبة, انه ينطق ويتكلم.
هرول إلى الحجرة 168 ليجد أحمد مستيقظا، والابتسامة تعلو شفتيه الشاحبتين, رد عليه بابتسامة أكثر إشراقا, سأله عن بعض الأشياء, طلب منه تأدية بعض الحركات بذراعيه وقدميه, ليتأكد من نجاح العملية وزوال الخطر.
مكث أحمد بعدها ستة عشر يوما، ليستكمل فترة العلاج والاستشفاء. في كل صباح من هذه الأيام الستة عشر, كان ريتشارد يجلب الطعام والهدايا لأحمد, وأحيانا، كان يتناول معه وجبة الإفطار.
أصبح معلقا، بأحمد لدرجة أثارت دهشة واستغراب الجميع, وخصوصا، بيثاني, التي سألته بلهجة ضاحكة مازحة:
ـ لم يتبقى إلا أن تسافر معه إلى فلسطين, أليس كذلك؟
انطلق الفم, من الوجه الذي تسيطر على عضلاته الفرحة, ليقول:
ـ نعم, سأسافر إلى فلسطين.
نظرت إليه فاغرة الفاه, كالبلهاء تماما، ربما لم تكن مندهشة فحسب, بل مذهولة.
أضاف: لن أستطيع أن أسافر مع أحمد, فالوقت لا يسعفني, أحتاج شهرين على الأقل كي أستعد للسفر.
خفت حدة ذهولها, وقالت بلهجة من التعجب:
ـ تحتاج إلى شهرين!, لماذا؟.
ـ أردفت, بإمكانك إنهاء إجراءات السفر خلال يومين أو ثلاثة كحد أقصى.
قال بصوت مرتفع يميل إلى الصراخ:
ـ لا. ثم عاد للتحدث بصوت معتدل ولطيف:
ـ لن أسافر خالي الوفاض, سأصطحب معي فريقا، طبيا، تطوعيا، وكمية من اللوازم الطبية والأدوية.
قالت بصوت أعلى من المرات السابقة:
ـ فكرة رائعة, أعتقد أنني سأكون أول المنضمين إلى فريقك الطبي, نعم سأسافر بصحبتك إلى فلسطين.
نظرا إلى بعضهما البعض والحماسة تشع من وجهيهما, أكملا سيرهما في الدهليز الضيق, قاصدين إحدى الحجرات, حيث يعاني أحد المرضى, وأثناء مشيهما في الدهليز, كانا يخططان للرحلة المنشودة.
****
وصل الوفد الطبي إلى الحاجز الإسرائيلي المتاخم لقطاع غزة, من جهة الشمال. ريتشارد وبيثاني يسيران في المقدمة, ويحملان في أيديهما حقائب ثقيلة مملوءة بالأدوية, من خلفهما يسير سبعة أشخاص آخرين, يلهثون ويترنحون من ثقل أحمالهم, ينظر إليهم الجنود الصهاينة من خلف نظاراتهم السوداء المستفزة, دون أن يعرضوا عليهم أيا، من أشكال المساعدة.
عبر ريتشارد بأنظاره إلى ما وراء الأسلاك الشائكة المحيطة بقطاع غزة, تدرك عيناه طفلا، رث الثياب, يهش على غنمه بعصاه الهزيلة, وفي الأفق الممتد خلف الطفل والغنم, لم يرى سوى تشابكات واكتظاظات إسمنتية. سحب أنظاره وعاد بها إلى حيث يقف, إلى ما قبل الأسلاك الشائكة؛ ليرى جنديا، صهيونيا، جاء من أثيوبيا ينظر إليه بازدراء.
تحدث مع نفسه بصوت خافت, وكأنه يلعن شيئا ما:
ـ كم أنت ظالم يا أيها العالم, كم أنت قبيح.
سار قليلا، ليجد أمامه أحد الجنود يسأل بشيء من الوقاحة:
ـ هل معك جواز سفر؟!
رد عليه مصطحبا، بسمه مصطنعة:
ـ نعم.
قال الجندي بنفس اللهجة الفظة:
ـ ريتشارد برادلي, من المملكة المتحدة, طبيب.
علق ريتشارد:
ـ صحيح, هذا أنا.
سأل الجندي وهو ينظر إلى الحقائب السمينة المنتفخة:
ـ إلى أين أنتم ذاهبون؟
ثمة أصوات فضلا، عن ريتشارد أجابت:
ـ إلى قطاع غزة.
قال الجندي بتجهم:
ـ ممنوع الدخول.
ــــــــــــ
* يوتوبية: المثالية والكمال.
* دستوبيا: النقص والخلل.