سِفر غرناطة

سِفر غرناطة

يسري الغول

[email protected]

الإصحاح الأول

حاصرنا الحصار، ونزلت دموع السماء بجنون، ففتحنا أفواهنا نلتمس شيئاً من بركاتها، وجاءت النسوة واحدة تلو الأخرى تعجن أبناءها بدم المباركين، وانتظرنا حتى تنفرج السماء فتخرج لنا من الأرض ينبوعاً وجنة من نخيل، لكننا بقينا طويلاً دون أن نحظى بشيء, حتى كاد أن يُقضى على الشيوخ الصابرين وتضع كل ذات حمل حملها، فقال الرب حينها مخاطباً أبناءه من أهل قشتالة بصوت ضج الأركان: "تسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء، وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض"، فعلمنا لحظتها فقط، بأننا هالكون لا محالة".

***

الإصحاح الثاني

يا أبنائي: "إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزراً على وجه كل أرض وكل شجر فيه ثمر. لكم يكون طعاماً ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب اخضر طعاماً". استبشرنا خيراً، وخرجنا نبحث عن قوت عيالنا في الحقول المجاورة يتقدمنا بن أبي الغسان[1]، يسير/ نسير بحذر على أطراف أقدامنا، يتلصص بعضنا على جند إيزابيلا وفريناند[2] المتمترسين في الخارج، وبن أبي الغسان يصوب سهامه تجاه اللاشيء، وقبل أن نوغل في العتمة نكتشف بأن الكروم والحقول والمزارع قد أُحرقت جميعها، فأضحت الدنيا مناراً لموت القادمين... نبكي دون أن يواسينا أحد، يهتف موسى  بصوت خافت:

-       عودوا أدراجكم، فقد أختاركم الله لأمر كان مفعولا.

ثم متابعاً:

-       ليعلم ملك النصارى أن العربي قد ولد للجواد والرمح.

نعود دون أن نجد شيئاً غير مشقة الطريق، وبعض الكلاب الضالة والخيول التائهة التي نأخذها متلهفين لوليمة قد تسمن أو تغني من جوع. وعند حلول المساء تنتشر في المملكة رائحة العفن.

***

الإصحاح الثالث

دام الحصار سبعة أشهر عجاف، حتى هلك الزرع والنسل، فقال أهل غرناطة لمليكهم:

-       ائتنا برؤية أو حلم فيه بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، علنا نعود بعد السبع إلى سابق العهد، فتشرق الأرض بنور ربها.

لكن الصغير[3] لم يفهم مقصدهم وظل يتمايل كما الغواني يعب الخمر عباً، مهدداً بقتل كل من يخرج عن طوعه، ثم آمراً الجند بإحضار الجواري كي يرقصن على أنغام الحكاية الجديدة.

***

تراتيل وصلوات هامشية

الحصار يشتد، براً وبحراً، السفن تطلق شبقها للدم، تمخر عباب الريح، فتبكي عجوز تضرب في الرمل، وهي تعبث بأشيائها المبروكة، تقول:

-       لو كان الجو مِلكاً لهم لقتلونا واستراحوا.

وعند بوابة قصر الحمراء تخلع المرأة ملابسها أمام الحرس، وتظل ترقص والدموع تتساقط بغزارة حتى تغرق عيون الآخرين بحزنها، ثم تطلق صرخة مدوية في وجه الصغير:

-       أخرج يا ملعووووووووووون.

الذهول يحاصر المملكة المحاصرة، يلتف الناس حولها، يحاول أحدهم ستر جسدها، لكنها تجري كطفل لم يبلغ الحلم بعد، تنادي وخلفها الصبية:

-       سنموت على ألا تسلمها لهم أيها الزاني.

يغشى على المرأة، تموت، والرجال يتهامسون فيما بينهم عن تسليم آخر معاقل المسلمين لأهل قشتالة، يخرج أحد الرجال عن طوره، يسأل وهو يلعن ويسب:

-       ومن الذي سيفاوضهم؟ وعلى ماذا سيفاوضون؟

يتردد بين جواري القصر حواراً يسمعه الذين يموتون كل يوم ألف مرة:

-       إنهما الوزير أبو القاسم، والوزير يوسف بن كماشة.

وأبو القاسم يفاوض بتودد، يوافق دون إبداء أي اعتراض، يقبل شروط الرب المباركة، طامحاً في مصلحة له ولأبنائه ولحاشية الأمير، سيكونون عبيداً لدين قشتالة، سيفعلون ما يريد الرب، سيقدمون دماء إخوانهم من أجل خبز طازج.

***

الإصحاح الرابع

خلت المساجد من العامة، وصار مسجد غرناطة مزاراً للهائمين في الملكوت، بعد أن تحول بقوة الشيطان وجبروته إلى كنيسة عظيمة، سامقة، ورب الجنود يهتف: "من مشرق الشمس إلى مغربها، اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يقرب لاسمي بخور و...". والكنيسة تصاب بالعمى، تخطفها العتمة كل يوم، حتى تختفي المصابيح الذهبية المحاطة بالمسجد/ الكنيسة. وتخلو الشوارع من الأنوار، إلا من وجوه نساء غرناطة الفاتنات.

***

الإصحاح الخامس

ها هو ذا يأتي اليوم المتقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الأتي فلا يبقي لهم أصلاً ولا فرعاً، فتكتسي الكآبة النفوس، ويشتعل الناس غضباً، يتوارون في بيوتهم بعد نبأ المعاهدة السرية بين فيرناند وأبي عبد الملك، يذوبون في الجبن، ينامون هائمين بالطوفان والجراد والدم آيات للمستكبرين، وحين تنعدم الرؤية ولا يتحقق من ذلك شيء، يخرجون عن طورهم، فيعتلون أسقف البيوت، والمساجد، يكبرون، يهللون، والسماء تُقسط حمماً، كأنها الثورة، وكأنها حلاوة الروح، وفي الفضاء تحاصرهم السحب، دون أن يتوقفوا، يزفرون صيحاتهم في أرجاء المعمورة، فيقرر الصغير تسليم المدينة باكراً، لتُطلق مدافع الحمراء، إيذاناً بالتسليم، فتدخل قوات الرب متجهين نحو القصر، يرفعون صلبانهم فوق أبراجه، وأم عبد الله الصغير تهدهد ابنها بانكسار: "ابك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".

***

ترانيم الجنون (من إصحاح لكتاب غير معروف)

يغطى الظلام مملكة غرناطة في لحظة خاطفة، حتى إذا أخرج الواحد منهم يده لم يكد يراها، وتستشري الريح تجوب الحواري والدروب، فيتفرق بنو الأحمر في كل اتجاه، حائرين، تائهين، يتخبط الواحد فيهم بالآخر دون أن يعتذر أو يفكر بالمشاجرة، وكأن الناس سكارى، بعد أن يتهادى إلى أسماعهم أن عذاب الله واقع اليوم لا غداً، وأن الدنيا توشك على الهلاك.
والصغير لا يتورع عن الإنابة إلى بارئ الكون، بل يأخذ في البحث له عن جارية في مخاض المملكة الأليم، يفتش في أرجاء قصره دون أن يجد أحداً، بعد فرار الجميع إلى الشمال والجنوب، وهناك يلوح له صورة شبح أمرد، فيسأل بوجل:

- أيها العبد، من تكون؟!

ينتظر أي إجابة تصدر عن الهلام المنتصب أمامه، إلا أن انتظاره يطول، فيعاود سؤاله مرة أخرى وأخرى، دون أن يحظى بأي إجابة تشفي غليل روحه، فيدرك لحظتها فقط بأنه يهذي وبأن المرض قد حل بجسده جراء تهدم القلاع وسقوط المملكة بيد الشيطان، ومع خيالاته تهب الريح بقوة في أرجاء المكان فيفقد كل ما يملك من حظ الرجولة، يبول على نفسه في ثيابه الوثيرة، فيظهر وجه المارد كاملاً، متحصناً بأسمال رثة، مهترئة، وصراخه يهز المكان:

-       أبا عبد الله، إني أرى في المنام أني أذبحك.

الوجوم يصيب الجسد المتراقص، والوجه يمسي شاحباً، بينما تتكرر الترانيم:

-       أبا عبد الله، إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى؟!

كأنه يبول على نفسه من جديد، وكأنه نسي كل آيات الذكر التي حفظها مذ كان صغيراً، فصار يهذي بقصائد ابن زمرك وابن الخطيب، والهلام يتقدم ببطء نحو الصغير الذي لم يعد يفكر بالجواري أو القصر أو المملكة، حتى يقع متعثراً على قفاه، وحين يظهر نصل السيف لامعاً، يزدرد ريقه ألف مرة، ويصرخ مغمضاً عينيه:

-       أرجو لا تقتلني، وخذ ما تشاء من المملكة.

-       ........................................

-       أرجوك، افعل ما ترى، خذ ما تريد، لكن لا تقتلني.

وقبل أن ينزل السيف على رقبته المنتحرة، تتخثر الأرض بالدم، ويتعبق الجو بأريج الموت، فينظر العبد الأسود من شبابيك القصر وقد هاله المنظر، ليكتشف بأن نساء غرناطة ما زالت تُنحر كالخراف، فيطلق صيحته المجنونة ثم يولي خارجاً إلى حتفه.


 

[1] موسى بن أبي الغسّان فارس غرناطة ، رفض تسليم غرناطة إلى النصارى، وقاوم حتى النهاية.

[2] ملك وملكة إسبانيا اللذان قاما بتوحيدها وكانا يُسمَّيان الملكين الكاثوليكيين.

[3] أبو عبد الله محمد الثاني عشر، وهو آخر ملوك الأندلس المسلمين الملقب ب((الغالب بالله)). وكان ملكاً على غرناطة من بني نصر من ملوك الطوائف، واستسلم لفرديناند وإيزابيلا يوم 2 يناير 1492. وسماه الأسبان بالصغير.