ريعان والشيخ ...

ريعان والشيخ ...

رضا سالم الصامت

في مكان بعيد عن البلدة ، يوجد جبل  لا يعرفه الناس و لا يزورونه  ما عدا شخص واحد اسمه ريعان .

 ريعان هذا رجل يبلغ من العمر أربعون عاما متزوج و له  أبناء ، اتخذ من هذا الجبل موقعا له ، حيث يزوره كل يوم عندما تنام المدينة و تقفل أبوابها ، فيأخذ قوته و يصعد الجبل ليعمل  و  يتعشى و ينام و في الصباح الباكر يعود إلى زوجته التي تقطن مع أبنائها في البلدة  بعد أن يبيع حشائشه التي اقتلعها من هذا الجبل في سوق قريب من البلدة.

و في إحدى الليالي رأى في منامه شيخا  يطالبه بمغادرة المكان لأن هذا الجبل خطر عليه  فاستيقظ مذعورا من شدة الخوف  ، لكنه لم يكترث بنصيحة الشيخ   و قال في نفسه انه مجرد حلم .

 قابل زوجته و أبنائه و لم يقل لهم شيئا مما رآه في منامه .

و في الغد و كعادته  و بعد أن أقفلت البلدة أبوابها  ، عاود الذهاب إلى الجبل و بعد الانتهاء من عمله في اقتلاع بعض الحشائش ، تناول العشاء  ثم  ذهب للخلود إلى  النوم ، رأى في منامه مرة أخرى الشيخ الذي جاءه  لينصحه بالابتعاد عن الجبل و فتح معه حوار ، حيث  قال له : كيف تريدني الابتعاد عن الجبل و هو مصدر قوتي و  إن كنت  حقا  تريدني الابتعاد  عن الجبل ، فاظهر لي أيها الشيخ في اليقظة  حتى أتأكد من حسن نواياك !

رد عليه الشيخ : حسن ، و لكن  بشروط  ، إن قبلتها سأظهر لك  في اليقظة . و إن لم تقبلها فانك ستحرق بعد يومين و ينتهي ريعان للأبد.

خاف ريعان من كلام الشيخ  و سأله : و ما شروطك ؟

فرد عليه الشيخ : إنها ثلاثة ، و لكن عليك الانتباه لما سأقوله لك بكل دقة .

رد عليه  ريعان : إني أسمعك  ، هات ما عندك

قال الشيخ :

 شرطي الأول : أن تبحث عن قبر زوجتي  و هي مدفونة في أسفل الجبل تحت صخرة منحوت عليها حرف ميم و تأكد انه حرف سوف يهمك كثيرا عندما تنجح في أداء المهمة و لا تنساه. و تذكر جيدا حرف ميم لأنه مرتبط باسم مغارة

 شرطي الثاني  : أن تفتح القبر لتجد لوحة من ذهب مرمية  على صدرها ، فأوصيك أن لا تحركها و لا تلمسها، واحذر فان لمستها سوف تحرق يا ريعان 

و أخيرا شرطي الثالث :  إذا  نجحت في رفع الصخرة ، عليك أن تجلب لي شعرة من شعر زوجتي  الميتة  ... 

سمع ريعان  كلام الشيخ  ثم سأله : و لكن من أين لي أن اعرف أين زوجتك مدفونة ؟

 همهم الشيخ ثم قال : أحذرك يا ريعان ،أنك ستعرض نفسك للمهالك للقيام بهذه المهمة الصعبة و الكثيفة المخاطر و عليك التحلي بالصبر و أن تكون منتبها لنفسك لأنك ستغامر بحياتك ... وبالنسبة  للوصول إلى قبر زوجتي فهذا أمر سهل  ... سيأتيك طائر يدلك على الطريق الذي يؤدي بك إلى الصخرة !

فهم ريعان كلام الشيخ ... ثم سأله : و ماذا سأجني  من كل هذا ؟

ضحك الشيخ ثم قال : إن  أديت هذه المهمة  كما  ينبغي  سأظهر لك في اليقظة مثلما اتفقنا  و سأجلب الخير معي و افتح لك المغارة.

  اهتم ريعان بكلام الشيخ و سأله مرة أخرى و ما ذا عن المغارة ؟

 فرد عليه الشيخ : عندما اظفر بشعرة زوجتي  سأترك لك المغارة .

 وافق ريعان على هذه الشروط ، ثم  سأله متى سأبدأ فرد عليه الشيخ : عندما أعطيك إشارة.

و اختفى الشيخ و استفاق ريعان من نومه ، و بقي يتأمل المكان و هو يجمع ما رآه في منامه .

و بعد أيام ظهرت الإشارة  ، إذ  سمع صدى صوت الشيخ يدعوه ليبدأ المغامرة  ..... التفت يمنة و يسرة  و أمره بالنزول إلى سفح الجبل  بعد  أن اخذ كل احتياطاته  .

بدأ ريعان  في تنفيذ الشرط الأول  والبحث  عن قبر زوجته ، في الأثناء تعرض إلى هجوم حيوان مفترس  يحاول منعه من الوصول إلى القبر و بدأ يصارع  هذا الحيوان الذي كان في كل مرة تتغير صورته و حجمه فمرة  أسد و مرة نمر و مرة  ثورا  و أخيرا طرحه أرضا و هشم رأسه  بحجر فظن ريعان انه مات

بعد لحظات انقض عليه من جديد و عاود مهاجمته،  فتسلق ريعان شجرة ثم اخرج خنجرا كان معه و نزل من أعلى الشجرة لينقض على هذا الحيوان الغريب  و اخذ يمزق أجزاء من عنقه بالخنجر و الدم يسيل  إلى أن انهار الحيوان و ذاب تماما و لم يعد له أثرا .

جن جنون ريعان و أخذ يبحث عنه هنا و هناك و تملكه الذعر ، حيث لا أثر له و من شدة التعب أخذ نصيبا من الراحة ، و إذا بالطائر يحلق فوق رأسه، وقتها تذكر كلام الشيخ : أن هناك طائر سيدلك على الطريق الذي يؤدي بك إلى الصخرة

فأخذ يتبع  الطائر فإذا به ينزل من الجو ليقع على الصخرة  و بقي  ريعان  يبحث عن حرف ميم و بدأ ينظف الصخرة بكلاتا يديه و هو يقلب كفيه  و أثناء البحث جاءته عقرب طولها مترا  هائجة تريد أن تلدغه ، لكن فجأة ، قفلت راجعة  عندما اشتمت رائحة الدم ، و رأت يديه ملطخة .

قال في نفسه أن في هذا الدم سر ...

واصل بحثه عن الحرف " ميم  " و عندما وجده فرح كثيرا و قال  الآن بإمكاني أن ارفع الصخرة  لأفتح القبر بسهولة  و ابدأ في تنفيذ الشرط الثاني  .

حاول عدة مرات أن يرفع الصخرة ، لكنه لم يفلح  فبدا يفكر في حيلة .  

كان الشيخ في الأثناء  يراقب ما يفعله ريعان ، دون أن يشعر به ، ثم شمر على ذراعيه و طلب العون من  الله ومسك الصخرة بيديه  و حاول عدة مرات و لكنه فشل  و تعب .

اخذ يمسح عرقه من جبينه ، وقتها جاءته فكرة للتغلب على هذه الصخرة  الثقيلة  .

أزيل بعض الأثر من الدم من يديه عندما مسح عرقه و حاول رفع الصخرة من جديد ، فكانت المحاولة ناجحة ،حيث لا حظ أنها تحركت بعض الشيء.

فهم أن عليه أن يزيل أثر دم الحيوان المفترس الذي صارعه  من يديه ، فأسرع إلى اقرب بركة ماء  و غسل يديه جيدا ، و ما أن وضع يديه على الصخرة و دحرجها حتى رفعت و إذا بحية ضخمة  تلتف حول عنقه .

كان في الأثناء يرى جثة زوجة الشيخ وهي ممتدة في قبرها و على صدرها لوحة ذهبية و تذكر قول الشيخ أن لا يلمس تلك اللوحة ، لأنه لو لمسها فان تلك الحية ستقضي عليه و تلدغه لدغة مميتة و تنهي حياته ويحرق  ريعان .

تذكر ريعان قول الشيخ و عرف انه آن الأوان لتنفيذ شرطه الثالث و الأخير و هو أخذ شعرة من شعر رأس الجثة دون لمس اللوحة الذهبية الموضوعة على صدرها .

 رأى ريعان شعر رأسها ، لكن الحية الضخمة  تغيرت ملامحها و أصبحت ثعبانا قويا  أعاقت حركته  ففكر في حيلة  تنجيه من سمومها

اخذ يتدحرج بجسده ببطء إلى أن اقترب من رأس الجثة و بعد عناء استطاع الإمساك بشعرة من شعر الميتة  و مسكها بيده  بعد عناء  فما كان للحية الثعبان إلا أن أطلقت سبيله و تركته في حاله و اختفت من المكان و ذابت تماما .

تملكه الذعر و انتابته الهواجس و أصبح المكان يلفه الدخان  و النار  تشتعل في أسفل الجبل ، فلم يجد للجثة أثر و لا اللوحة  الذهبية ، كل شيء ذاب فخرج  مذعورا .

 و قتها ظهر الشيخ  بقامته الطويلة و لحيته البيضاء ، مسكه من الخلف و قال له : أبشر يا ريعان لقد أتممت المهمة و نفذت شروطي بالتمام و الكمال و بكل شجاعة

كان  ريعان متعبا منهك القوى ،  مضطربا  .

التفت إلى الوراء  و سأل : هل أنت هو الشيخ الذي زارني في المنام ؟

 قال نعم ، زرتك في المنام و ها أنا  في اليقظة حسب و عدي لك .

 طلب الشيخ  " الشعرة"  لكن ر يعان فوجئ بأن الشعرة التي كانت بيده و هو ممسك بها لم يجدها .. فانتابه قلق كبير و لم يفهم كيف افتقدها  فأخذ يبحث عنها  كالمجنون ... و هو يصيح " الشعرة .... و هو يسأل نفسه  أين وضعت الشعرة ؟

ضحك الشيخ  و قال : ما بك يا ريعان ؟

قال : فقدت الشعرة أيها الشيخ !

فرد عليه الشيخ قائلا : لا تهتم  ههههههه ، إنها عندي .. هيا  معي اتبعني  الآن  إلى المغارة .... فبعد  لحظات سينفجر الجبل ليصبح جبل النار و تصبح أنت يا ريعان تعيش في خير و أمان .

غادر ريعان و الشيخ الجبل و بعد برهة قصيرة  انفجر الجبل و التهمته النيران  و دخل الشيخ مغارته و اخذ الشعرة  و وضعها على نار ، تبخر المكان .. و صعد الدخان ، فإذا بالشيخ قد عادت  إليه زوجته  ، أخذها  و بسرعة البرق  ذاب الشيخ و لم يعد له أي أثر .

بقي  ريعان لوحده في المغارة و من كل جهة يرى الذهب  و الزمرد  و  الياقوت و الأحجار الكريمة و الأموال و كل ما تشتهي النفس من مأكولات و غلال ... وبينما هو يتأمل سمع صوت الشيخ  يوصيه بأن لا ينسى عندما يريد دخول المغارة أن يصيح ثلاث مرات ' ميم  ميم افتح بابك يا  ميم  فيفتح له الباب  .

بقي ريعان يعيش في بذخ و خير لسنوات و لم يعد يقتلع الحشائش وفي كل مرة يغادر المغارة لقضاء شؤونه و يعود لها ثانية  و هو يصيح  "ميم ميم  افتح بابك يا ميم " تغير ريعان و نسي ماضيه  و  صار يعامل  الناس بقسوة  ، تملكه الغرور و أصبح يحب السهر و اللهو و النساء كثيرا ،  فغضبت زوجته من تصرفاته و قررت العودة من حيث أتت  فأخذت أبنائها و غادرت إلى البلدة لتعيش مع أبنائها حياة بسيطة . اغتاظ ريعان و قرر الانتقام و أصبح مستبدا  و ظالما .

و في يوم من الأيام طلب من خدامه أن يصطحبوه في جولة  صيد و عندما رجع  أراد الدخول إلى المغارة فنسي  كلمة المفتاح " ميم  ميم افتح بابك يا ميم " و بقي يصيح بأحرف أخرى فلم يفتح له باب المغارة ، فاشتد  غضبه و حزن كثيرا و بكى

و ندم على ما فاته ثم نام. كان في كل ليلة  يتمنى لو يزوره الشيخ في المنام ، لكن الشيخ لم يأتيه و رجع ريعان  مهزوما ، فقيرا مشردا  يستعطف زوجته و يطلب المغفرة منها و عاد إلى حياة البؤس ، هكذا كانت نهايته  حزينة ، فتذكر كيف كان يعيش على اقتلاع الحشائش وهو يبيعها في سوق البلدة ، تذكر كيف كان  يعيش سعيدا رغم البساطة و الفقر مع زوجته و أبنائه  ، مثلما تذكر كيف جاءه الخير وتغيير و أصبح  يعامل الناس ببطش و عنجهية و  قسوة و منهم زوجته و أبنائه

 فندم شر الندم ... لكن هل ينفع الندم بعد العدم ؟