المتيمة
المتيمة
رؤى صبري
رحت أقلب البوم صور تخرجي وأنا أتأملها واحدة تلو الأخرى ، وأقرأ في كل واحدة منها ألف حكاية وحكاية, تخرجنا من الجامعة وتفرقت بنا السبل خاصة أن كل واحدة استقلت بوظيفة مختلفة في عدد من القطاعات واستقريت أنا في وظيفة مبيعات تتمثل في بيع بضاعة عبر الهاتف لدول أوروبية ، مما يستدعي ساعات عمل ليلية في أغلب الأحيان ، مراعاة لفارق التوقيت .
منذ التحقت بهذا العمل وشبح الوحدة يطاردني وتمثلت حياتي في لعبة القط والفأر, كلما هربت منها إلى مكان أجدها تنتظرني فيه, و لطالما كرهت الوحدة لأنها كثيراً ما كانت تذكرني بوالدتي ,بانعزالها وبعدها عن المناسبات الاجتماعية فمنذ أن بلغت الخامسة لم أعد أرى زواراً في منزلنا ، ولم نحضر أي أعراس حتى لأقاربنا وعندما كنت أسألها عن سر وحدتها كانت تجيبني بصمتها, كبرت وأصبحت عكسها تماما اجتماعية لأقصى درجة خصوصا بعد وفاتها ،فضلا عن أنه لا إخوة لي وأبي متزوج بأخرى منذ زمن بعيد, ولذلك لم أسمح لبيتي أن يكون هادئا ، ودائماً ماكنت أستقبل زميلات الجامعة للمذاكرة أو لإقامة حفلة أو حتى للمبيت, كان يومي مليء بالحركة والناس، ولم أكن أسمح للوحدة بأن تعشعش في منزلي لقد طردتها شر طردة ولن أسمح لها بأن تعود يوما,لكن منذ التخرج أصبح الكل مشغول في العمل وفي الليل يبدأ عملي في أغلب الأوقات لكني لم أتراجع أمسكت بسيفي ورحت أكافح وحدتي فلو صادف دوامي النهار كنت أتصل بصديقتي سميرة وهي من اعز صديقاتي فكثيرا ماكنا نتقابل ساعة الغداء في مقهي صغير يقع على مسافة قصيرة بين الشركة التي أعمل بها والبنك الذي تعمل فيه سميرة,أما إذا الدوام ليلا فكنت أخرج مع زميلتي في العمل حنين وهي صديقة جديدة لكني كنت أشعر أننا اقتربنا من بعضنا كثيراً في فترة قصيرة ، وفيما عدا ذلك كنت دائما ما أحاول ان أرتب لقاءات خارجية في إجازة الأسبوع , كان همي الوحيد أن أقضي على وحدتي ، فلن أسمح لها أن تلتهمني كما فعلت مع أمي, ومرت الأيام بلياليها القاتمة فيما يداهمني وحش الوحدة أكثر فأكثر,أصبحت سميرة تتخلف عن لقاءاتنا في أغلب الأحيان بحجة العمل، لم أعد أراها كثيراً، ولم تعد تحادثني كما كانت تفعل من قبل ، حاولت قدر الإمكان أن لا أجعل العمل يقتل صداقتنا فكلمتها أكثر من مرة لكي نتقابل خارج ساعة الغداء لكنها تحججت مرة أخرى ، قررت أن لا أضغط عليها كثيراً فلعها مشغولة فعلا ثم ليست هي صديقتي الوحيدة فهناك حنين وغيرها من البنات,عادت أيامي تمضي ورحت أقضي كثيراً من الوقت مع حنين وبوجودها شعرت أن الوضع أفضل بكثير شعرت بأنها تحرسني من الوحدة وتنجني منها خاصة أنها تعيش وحيدة مثلي ولطالما أتت لتمضي ليال في منزلي أو للتسوق او غيره بل أنني في بعض الأحيان كنت أوصلها بالسيارة لزيارة خالتها التي يقع منزلها خارج المدينة ,كنت سعيدة وأنا أغرز الخنجر في قلب وحدتي ، وأثبت لها أنها لن تستطيع أن تسرق مني سعادتي وبأنني سأظل أحاربها إلى أن أهزمها تماماً, مضت الأيام جميلة ولم تعد كالسابق ،وذات يوم خرجت للغداء في المقهى إياه لم تكن حنين موجودة ساعتها ، وما أن دلفت حتى وجدت سميرة ونجوى تتناولن الغداء أشرق وجهي وفرحت لوجودهن ، طلبت "برجر" وذهبت لأجتمع بهن رحبت بي سميرة وقبلتني على خدي بحكم أني لم أراها منذ زمن جلست الى جانبها ورحنا نتجاذب أطراف الحديث في مواضيع مختلفة إلى أن فوجئت بسميرة تقول لي :
لا تنسي أن تقدمي التهاني لنجوى فعرسها بعد أسبوعين.
جحظت عيناي وقلت:
متى وكيف لماذا لم تخبرني من قبل؟
قالت نجوى بامتعاض:
لم تكن هناك فرصة.
نظرت لها بسخرية وقلت:
حقاً!!
وعدت أقول:
ومن ستتزوجين؟؟
ردت بخبث:
فلتكن مفاجأة.
نظرت لها بنصف عين وقررت أن لا استرسل في الحديث أكثر، فما أن أنفرد بسميرة حتى أعرف منها الحكاية ، وفعلا كان لي ما أردت رحلت نجوى وظلت سميرة فسألتها بسرعة:
أخبرني ماذا حصل لماذا تخبئ نجوى أمراً زواجها ومن هو الذي ستتزوجه؟
ردت ضاحكة:
لا شئ هي فقط تخشى الحسد.
عدت أقول بحنق:
وبمن سترتبط؟
أجابت سميرة بخبث لا يقل عن خبث نجوى:
هل تعرفين الرجل الذي يقف في محل الورد المقابل؟
قطبت جبيني محاولة التذكر:
لا لا أذكره جيدا.
ثم عدت أقول باستغراب:
لكن ما شأنه في هذا الأمر؟
ردت وهي تمسح شفتيها بالمنديل:
إنه هو.
أجبت بتعجب:
لكنه أكبر منها بكثير.
قالت وهي تحمل حاجاتها راحلة:
هكذا هو الحب.
ثم أردفت قائلة:
وداعا أراك لاحقا.
أشرت لها بيدي ولم أجبها,لم أتوقع تصرف كهذا من نجوى كنت أظن أنها صديقتي لكني تضايقت من تصرفي إذ فرضت نفسي من خلال أسئلتي لكن ما حصل حصل وحقا أنا أتمنى لها التوفيق , رحت اتمتم في نفسي عن سر هذا التعامل وجمعت حاجاتي وقفلت عائدة الى للعمل ، وأنا أحاول طرد أفكاري عن أسباب ما رأيت وسمعت.
في هذه الأثناء كرست وقتي وجهدي كي أعود إلى حياتي الطبيعة ، ولكن دون جدوى حيث لم أعد أرى حنين كثيراً بسبب التحاقها بدراسة الماجستير بالإضافة إلى العمل الممل الذي لم يترك لها مجال للحياة الاجتماعية وكان غيابها سببا كافيا كي تعود أطياف الوحدة لتلاحقني وأنا أهرب منها، لم يعد يؤنسني إلا المقهى الصغير الذي أقضى فيه ساعات راحتي سواء في الدوام أو حتى في إجازة نهاية الأسبوع , راحت الأيام تمضي بطيئة مملة لا طعم لها ولا رائحة .
بدأت أسلحتي تنفذ مني ولم أعد أعرف كيف أقتل وحدتي وكل خشيتي أن تقتلني يوما كما فعلت مع أمي,كادت الوحدة تقتلني فاتصلت بحنين لنرتب سهرة أو لنفعل أي شئ لكني فوجئت بنبرتها مختلفة سألتها بقلق:
حنين هل أصابك مكروه ؟ ,يبدو صوتك مختلفا
ردت بقسوة:
أنا لا أستطيع أن أكون صديقتك بعد اليوم.
سرت قشعريرة باردة في جسدي وقلت:
ماذا....حصل هل...فعلت شيئا؟
عادت ترد بقسوة:
نعم فقبل ثلاثة أسابيع قلت لي كلمة لن أنساها.
أجبت بتوتر وأنا أحاول أن أتذكر:
ماهي.
قالت بعصبية:
لن أقول لك أكثر من هذا.
وقبل أن أفهم كانت قد أغلقت الخط اتصلت عدة مرات لكنها لم ترد,ترك رحيل حنين غصة في حلقي وفراغ كبير في حياتي أراها في العمل فتتظاهر أنها لا تراني تذكرت الأيام التي كانت تأتي فيها لتبيت في منزلي افتقدت كلامها ووجودها ومع رحليها خيمت الوحدة عليّ وفردت سلطانها الكامل وبدت محاولاتي للهرب منها كمقاومة طفل رضيع لا حول له ولا قوة, كان كل يوم يمضي برتابة أكثر من غيره كأنما ينافسه ومع كل يوم يمضى تقل طاقاتي فيه أكثر وأكثر وبينما أنا في دوامتي طرأت لي فكرة الاتصال بسميرة لأشكو لها ردت وهي في عجلة قائلة:
أنا مشغولة هل أحادثك لاحقا؟
أجبت بعصبية:
لا أحتاج أن أتحدث معك الآن.
ثم أردفت قائلة:
ثم لماذا أنت مشغولة دوما؟
ردت بصوت خفيض:
اليوم هو يوم خطوبتي.
طبق علي الصمت ولم أتحدث لكنها قطعت الصمت قائلة:
سأقيم حفل بعد أسبوعين لكنني سأدعوك في العرس.
أجبت قائلة:
إلى اللقاء.
أغلقت الخط وقلبي يحترق هل هذه صديقتي التي عرفتها يوما لماذا لا تريد أن أشاركها فرحتها ؟! لماذا أصبحت تكرهني فجأة بالرغم من المعزة الكبيرة التي أكنّها لها,رحت أسال نفسي هل أصبحت نكرة الآن لأني لم أخطب أو أتزوج لهذا أصبحن لا يطقنني ولهذا لم أعد صديقة,لم أكن واثقة من صحة تفكيري لكني لم أجد منطق ثاني أقتنع به ، لكن ما حصل في اليوم التالي أكد لي صحة شكوكي فبينما أقود السيارة لمحت واحدة من الفتيات كانت قد عملت معي فترة ثم استقالت لمحتها بطرف عيني وهي تدخل لأحد المستشفيات خشيت أن يكون قد أصابها مكروه وقفت السيارة ولحقت بها رحت أمشي ورائها ثم ناديتها:
دينا,دينا.
توقفت والتفت تعكر وجهها حين رأتني وعوضاً عن أن تتقدم للأمام راحت تتراجع خطوات للوراء اقتربت منها متعجبة:
مرحبا لم أرك منذ زمن ثم رأيتك هنا هل أصابك مكروه؟
تلوّن وجهها وقالت بامتعاض :
لقد تزوجت وزوجي متوعك.
هززت رأسي بمعنى الفهم وقلت لها:
أتمنى له الشفاء.
تركتها وغادرت لم يعد هناك مجال للفهم، لقد أصبحت نكرة في أعينهن لم أعد أعنى لهن شيئا وضعن الصداقة في سلة مهملات قديمة ،أصبحت الآن المرأة الشريرة لم أعد أمثل في نظرهن إلا مصدراً للحسد والغيرة، نسين أني كنت صديقتهن ,ركبت السيارة وضعت رأسي على المقود ورحت أبكى بلا انقطاع.
وبرغم كل ما حصل وكل الصديقات اللاتي تخلين عني بسبب أو بدون لم أسمح للوحدة أن تكون صاحبة الكلمة الأخيرة ورحت أحوم وأبحث عن رجل يقتل وحدتي ويعيد صديقاتي لي بدأت بزميل معي في العمل ورحت أرمي شباكي عليه لكن حتى هذه لم تفلح فظل يتهرب ويختلق الأعذار ليتخلّف عن لقائي والخروج معي ليس ذلك فحسب بل كان يتأفف من اتصالاتي ومع ذلك لم أتوقف عن المحاولة إلى أن جاء اليوم الذي واعدني به وظللت انتظره لمدة ساعتين دون أن يظهر، حينها أدركت أنه لم يكن جديراً بثقتي ، ركبت سيارتي ورحت اجوب الشوارع إلى ان وصلت الى طريق مهجور كنت آتي إليها للركض قبل تخرجي ،ركنت سيارتي وأخرجت حذائي الرياضي من السيارة ورحت أجري كأني أهرب من كل الأحداث التي حصلت وبينما أركض تأملت الطريق ووجدت أنه وحده الذي يريدني كما أنا بدون مجاملات أو نفاق أو أكاذيب بدون ثياب ثمينة وبلا أحمر شفاه وكل ما يتمناه هو زيارة بين حين وآخر هو وحده الذي يردني كما انا ,وقتها شعرت بالعار من نفسي كيف سمحت للأمور أن تصل بي لهذا الحد صحيح ان الوحدة بشعة لكن حتى وحدتي لم تجرحني بالقدر الذي جرني فيه الناس لقد قررت من اليوم أن أدخل قفص وحدتي وأن أتعلم كيف أعشق صمتي وكيف أتماهى مع وجداني اليوم فقط عرفت سر وحدة أمي, لقد ظللت أجري من الوحدة لوقت طويل ظللت أهرب منها ,أتحاشاها غير عالمة انها هي صديقتي الوحيدة فهي لن تضرني ولن تزعجني وبالتأكيد لن تحتقرني أو تقلل من شأني اليوم أنا وحيدة فخورة وأنا أقولها ,عاشقة لوحدتي لأبعد الحدود, دموعي تدفئي وتشعرني بإنسانيتي والأهم أنني لا أنتظر فيها أحدا , لقد قضيت وقت طويل وأنا أتعلم كيف أحب الناس ونسيت أن أحب نفسي ولذلك كرهت وحدتي لكننا اليوم صديقتان لا غنى لنا عن بعض ولن أتخلى عنها يوما ولن أسمح لأحد بأن يسرقها مني لأني أصبحت متيمة بوحدتي.