موعد في الســفارة

موعد في الســفارة

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

- نظر في الرقم المكتوب على بطاقة الصعود، وبحث عن المكان المخصص وأخذ مكانه، المكان يشيع نوعاً من ألاسترخاء فالمقاعد وثيرة،  وأنفاس الجو معطرة،  فأخرج من حقيبته المحمولة كتاباً ليزجي الوقت، وشد حزام الأمان وراودته أحلام اليقظة، بأن الساعة والنصف زمن الرحلة، فرصة للعودة إلى أحب هوايته المطالعة، بعدما أدخلته دوامة الأحداث الأخيرة في شغل ذهل فيها عن القراءة التي كانت وجبة رئيسة له يومياً،  إنها نفس الوشيجة التي خبرها بين العقل والمعايشة،  فثمة نوع من التلازم لا يحفل بمكان وثير، ولا تؤثر عليه رغبة، فكم من مرة  تلح  عليه رغبة ويقسرها تفكيره قسراً، وتتبخر، ويفقد  الشهية، ويملك من الخبرة الحياتية التي عاشها أمثلة كثيرة، يحول الانشغال الفكري، فيها عن انجازات في متناول اليد .

كان مَنْ حوله من الركاب، في عالم آخر كما أخبرته نظرته الخاطفة، فبين مبتسم، وهامس لجاره، ومنشغل بأمور إلا هو، يحاول الإفلات من صراع داخلي يبخل عليه بلحظات هدوء تقر فيها لواعج صدره.

 حاول صرف تفكيره للدخول إلى عالم ثانٍ غير ما يعاني، ويشغل نفسه بالقراءة، لكن ذاكرته لا تتوقف،  تذكر بأنها المرة الأولى التي يغادر فيها وطنه عبر المطار، وغير خائف يترقب، وله مشيعون، إلا أن هذه المحاولة بالذات رضخت لسواكن الذاكرة، وما يجاورها من قواطن الألم، فسيطرت على تفكيره محاولته الفرار بدينه قبل عقود من الزمان، وقتها كان لا يحمل حتى ما يُعرف به من وثائق، ولا يملك فلساً واحداً، يومها توكل على المولى حق التوكل، فرزقه أفضل مما رزق الطير القانعة بالقوت والعافية فقط، فحصل على وثائق، وعمل، وسافر إلى بلدان ودول ما كان يخطر بباله يوماً أن ويزورها لكنه عاش فيها سنيين وفي أكبر جزء من الذاكرة كان المكان الذي يقصده ألآن فقد لجأ إليه من قبل، وهو اليوم قادم للزيارة فحسب، وقتئذ كانت سفارة بلده هي مشكلة، ليست له فحسب، بل لكل مواطنيه.

ما كان يدعى سفارة،  عبارة عن فرع أمني في عمارة تقع بالقرب من وسط العاصمة،  والحقيقة كان فيها كهنة الِرهاب، الذين يشكّون بالمرء، وعلى الأخص مواطنيهم،  فمن شك أمني وهو الأساس، إلى شك في التهرب من الضرائب، إلى الحذر من نقل سلع تقنية تباع في الأسواق ولا توجد في أسواق الوطن، فعلى أي مواطن استصدار صكوك البراءة من التآمر على الوطن، من السفارة، والويل والثبور لمن يضبط متلبساً بمخالفة تنال من أمن الوطن، أي أمن زعيمه الأوحد، فكل مخالفة لها عندهم صلة بالأمن ونوع من التآمر، وموظفو السفارة يجتهدون في ملء جيبوبهم، من الرشاوي، حتى يزودوا الراغب بالسفر أو المراجع، بصك براءة.

 إنه لم يكن يسافر أصلاً فهو محكوم عليه بالخيانة العظمى، لأنه رأى في الإسلام منهج حياة، لكن أولئك الكهنة يترصدون له، وما أن يسمعوا بأي نشاط له، ولو كان في عرف العالم كله  منشطاً عادياً، يَسوُمون أهله وذويه العذاب، فالتقارير تصل بشكل دوري لزبانية النظام هناك في البلد، وهم متفرغون لحصر أنفاس "الخونة" من أمثاله.

عقدان من الزمان، يُخفي خلالها أي حركة،  قدر ما يستطيع، حتى لا يعرّض أهله للأذى، بل حتى المقيمون معه من أبناء وطنه يخشى بعضهم من بعض، فالنظام وزبانيته قطعوا الأرحام، وحولوا العلاقات بين أبناء الشعب الواحد، إلى علاقات شكليه، مفرغة من أي مضمون إنساني. يُنشئ أحدهم علاقة مع أي جنس أخر، ويزهد في أقاربه وأبناء بلده خوفاً منهم وعليهم.

كل هذه الذكريات كانت تجره من وادي عذاب، إلى أكمة ألم، ومر الوقت وهو تائه في شُعَب ومسالك الإحباط، يسترجع طعم الحزن وغصة الإخفاق، يسرح به الخيال في وهاد تجلب المشقة النفسية، التي تلقي بثقلها على جسده فتزيده انهاكاً، وهو في هذه المعاناة، اقتربت منه المضيفة وقالت:

  الحمد لله على السلامة .

وأخبرته أن رفقته من الركاب صاروا في أرض المطار إلا هو، فاعتذر إليها، وحمل حقيبته، ونزل، ليرى لافتة مكتوب عليها اسمه، ترحب بقدومه، وتذيل بتوقيع أعضاء السفارة، فأومى إليهم فهرعوا إليه بين مصافح، ومن حامل لحقيبته اليدوية، وكلمات التهنئة بسلامة الوصول .

قال في نفسه:

سبحان مغير الأحوال، فبعد أن كنتُ على لائحة المطلوبين المكروهين، هأنذا أُدعى من نفس المكان من السفارة لإلقاء محاضرات على الأقلية من أبناء بلدي وبدعوة رسمية وبجواز سفر دبلوماسي.

الحمد الله على نعمة الربيع العربي .