بسبوسة

بسبوسة

قصة من الواقع

رضا سالم الصامت

" بسبوسة "  و اسمه بالبطاقة طارق الطيب  يعرف بمحمد البوعزيزي من مواليد 1984عاش فقرا مدقعا ، تتكون أسرته من تسعة أنفار ، مات والده و هو في سن الثالثة  ربيعا ، فكانت والدته هي الأم و هي الرجل ، كدت و عملت  و كافحت من اجل تربية أبنائها و تعليمهم  و لكنها تزوجت بعدها من عمه.

تلقى محمد تعليمه في مدرسة مكونة من غرفة واحدة في قرية سيدي صالح ، واضطر لأن يعمل منذ العاشرة من عمره لأن عمه كان مريضاً ولا يستطيع العمل .

كان هادئ الطبع بشوشا ، يحب الخير للغير أمينا و صادقا ، شديد الحساسية يساعد الناس قدر المستطاع...

في سيدي بوزيد يعرف الداني و القاصي  ، وكل الناس تحترم شخصه المتواضع  و يحبونه كثيرا  .

حلمه أن ينجح في دراسته و ينال شهادته العليا و يصبح محاميا ، ليدافع على المظلومين ،و المفقهورين ، لكن " وليس كل ما يتمناه  المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن "

يقول "  بسبوسة "  الفقر ظالم ، الفقر كافر، فعندما مرض عمه و لازم الفراش ، اضطر إلى مغادرة مقاعد الدراسة. لم يكن محمد شاب مفتول العضلات ، بل كان نحيفا و خفيف روح فنصحه عمه الذي يعاني من مرض مزمن أقعده و لم يعد بإمكانه أن يتحرك بأن يصنع له عربة، فسلمه مبلغا ماليا بسيطا لصنع العربة و يبيع الخضر و الغلال ....

حاول التقدم للجيش ولكنه لم يوفق وتقدّم لعدة وظائف أخرى دون أن يوفق بها أيضاً.

 فكر الشاب البوعزيزي " بسبوسة  " في اقتراح عمه و بعد أيام  وافق عليه ،و تم تكليف احد أصدقائه  وهو  يعمل نجارا لصنع العربة و بعد حوالي عشرة أيام  جاء بسبوسة  و هو يقود عربته الجديدة فرحا مسرورا .

كل أهالي القرية جاءوا لتهنئة البوعزيزي  بالعربة التي نالت إعجابهم  و اقترح البعض منهم  تزيينها و تزويقها و دهنها  لتزداد بهاء و جمالا  ... أما والدته فقد وزعت المشروبات على الحاضرين  و قرر الجميع اقتناء  حاجياتهم من " بسبوسة " و اتفق الجميع أن  يكون موقع العربة في وسط المدينة قرب السوق  .

كان محمد البوعزيزي سعيدا بعربته و قرر  أن يخرج بها إلى السوق القريب لاقتناء خضرا و غلالا و يبيعها للعموم .

عم محمد الرجل المقعد المريض ، كان يراقب تحركات " بسبوسة " و هو طريح الفراش و فجأة ناداه : بسبوسة ...بسبوسة تعالي يا ابني.

 رد عليه قائلا : ما بك يا عمي ، أتحتاجني في شيء ؟

أجاب العم محمد: بلى ، إني فقط أريد أن أعطيك آلة وزن ...

 فلا تستطيع أن تبيع و تشتري إلا بآلة وزن ...

فرح محمد البوعزيزي  بهذا " الميزان" و قرر  أن يشتغل بناء على قوله تعالى : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ  ...

وبدأ العمل  و اكتسب تجربة  على مدى السنين .

 نجح في عمله و طوره و أصبح بائعا ممتازا بفضل أخلاقه العالية و كرمه و ثقته و حسن تصرفه ، كان محمد يعيل عائلته ويقبض أموالا أغلبها من بيع الخضار والفاكهة في شوارع سيدي بوزيد ...

كان سعيدا بعمله الذي يسترزق منه ليعيل عائلته من عرق جبينه و بشرف .

 و في ذات يوم ،و بينما هو منهمك في أداء عمله اعترضت دورية شرطة عربة الفاكهة التي كان يجرها محمد البوعزيزي في بعض الأزقة محاولا شق طريقه إلى سوق الفاكهة وحاولوا مصادرة بضاعته.

عم البوعزيزي هرع على كرسي متحرك  لنجدة ابن أخيه وحاول إقناع عناصر الشرطة بأن يدعوا " بسبوسة "  يكمل طريقه إلى السوق طلبا للرزق. ثم ذهب العم إلى مأمور الشرطة وطلب مساعدته، واستجاب المأمور وطلب من الشرطية  فادية حمدي التي استوقفت البوعزيزي برفقة شرطيين آخرين أن تدعه وشأنه.

 الشرطية استجابت ، ولكنها استشاطت غضبا لاتصال عم البوعزيزي الرجل المريض المقعد  بالمأمور.

بعد أيام ، عاودت الشرطية الذهاب  إلى السوق مرة أخرى ، وبدأت مصادرة بضاعة البوعزيزي ووضعت أول سلة فاكهة في سيارتها وعندما شرعت في حمل السلة الثانية اعترضها البوعزيزي، فدفعته وضربته بهراوتها. ثم حاولت الشرطية أن تأخذ ميزان البوعزيزي، وحاول مرة أخرى منعها، عندها دفعته هي ورفيقاها فأوقعوه أرضًا وأخذوا الميزان.

 بعد ذلك قامت الشرطية بتوجيه صفعة للبوعزيزي على وجهه أمام حوالي 50 شاهدا. عندها عزّت على البوعزيزي نفسه وانفجر يبكي من شدة الخجل و الظلم و القهر و أحس بالاهانة  وبحسب الباعة وباقي الشهود الذين كانوا في موقع الحدث، صاح البوعزيزي بالشرطية

 قائلا: " لماذا تفعلين هذا بي؟

أنا إنسان بسيط، لا أريد سوى أن أعمل عملا شريفا ، اكتسب به قوتي و قوت عائلتي ...

 لماذا تهينني هكذا ...ماذا فعلت ؟ ...

حاول أن يلتقى البوعزيزي بأحد المسؤولين لكن دون جدوى.

ثم عاد إلى السوق وأخبر زملاءه الباعة بأنه سوف يشعل النار في نفسه ولكنهم لم يأخذوا كلامه على محمل الجد.

وقف البوعزيزي أمام مبنى البلدية وسكب على نفسه مخفف الأصباغ (ثنر) وأضرم النار في جسده.

 اشتعلت النيران، وأسرع الناس وأحضروا مطفايات الحريق ولكنها كانت فارغة.

 اتصلوا بالشرطة، لكن لم يأت أحد. ولم تصل سيارة الإسعاف إلا بعد ساعة ونصف من إشعال البوعزيزي النار في نفسه.

كان المسكين يصيح و يتلوي يمنة و يسرة و النار تأكل جسده النحيف ، و لا احد يستطيع إنقاذه ...

كان منظرا مخيفا ، رهيبا و مرعبا .

أدى حادث " محمد البوعزيزي "  إلى احتجاجات من قِبل أهالي بلدته  في اليوم التالي، حيث قامت مواجهات بين مئات من الشبان في منطقة سيدي بوزيد وقوات الأمن. المظاهرة كانت للتضامن مع بسبوسة والاحتجاج على ارتفاع نسبة البطالة، والتهميش والإقصاء في هذه الولاية الداخلية. سرعان ما تطورت الأحداث إلى اشتباكات عنيفة و انتفاضة شعبية شملت معظم مناطق تونس احتجاجاً على ما اعتبروه أوضاع البطالة وعدم وجود العدالة الاجتماعية وتفاقم الفساد داخل النظام الحاكم. حيث خرج السكان في مسيرات حاشدة للمطالبة بالعمل وحقوق المواطنة والمساواة في الفرص والتنمية.

توفي محمد البوعزيزي  " بسبوسة "  يوم الثلاثاء 4 يناير/كانون الثاني عام2011  عن عمر 26 سنة متأثراً بالحروق التي أصيب بها منذ 18 يوماً. وسط أعدادً كبيرة من قوات الأمن "منعت باستعمال الضرب مشيـّعي الجنازة من المرور أمام مقر المحافظة" بعد أن كان سالم -شقيق محمد البوعزيزي- قد أعلن أن الجنازة ستمرّ أمام مقر الولاية وقد شيع جثمانه الآلاف وقد أعربت والدته عن شعورها بالفخر بما قام به ابنها وبالدور الذي لعبه في تحقيق التغيير في البلاد التونسية التي حكمها نظام ظالم مستبد لبن علي هذا الديكتاتور و سحبت و الدة بسبوسة شكواها ضد الشرطية " فادية "  لتجنب الكراهية وللمساعدة في مصالحة سكان سيدي بوزيد" فيما قالت الشرطية " إنني بريئة. لم أصفعه " قبل أن يحكم القاضي بشطب القضية ويأمر بالإفراج عنها. و أصبح البوعزيزي رمز الثورة التونسية .