الإرادة والتكيف 3

الإرادة والتكيف

الجزء الثالث

نسيبة بحرو

في المخيمات التركية .. يعيش اللاجئون السوريون حياة صعبة ، تفتقد الكثير من مستلزمات المعيشة اليومية بينما يتوفر القليل منها ، وحتى قليلها غريب عليهم كغربة الأرض التي يعيشون فوقها ..

فالطعام التركي الوارد اليهم ليس طعامهم ولم يعتد الكثيرون منهم على مذاقه ، وماء الشرب المتوفر لهم بالكاد يكفي لسد حاجة جميع أفراد الأسرة الواحدة .. أما ماء الاستخدام ، ففي الوصول اليه مشقة ، وفي استخدامه مشقة ، وفي جلبه الى خيمهم مشقة ..

قد نجـد عند البعض شيئاً من الأمتعة البسيطة التي استطاعوا إحضارها معهم من منازلهم قبل رحيلهم الى المهجر .. بينما لا نجد عند البعض الآخر سوى ما يكسون به أجسادهم ، إضافة إلى انعدام الأدوات الأساسية التي يحتاجونها لقضاء متطلبات معيشتهم وأمور حياتهم..

حياة لا يعرفون متى نهايتها ، فرضت عليهم بأحداثها وتفاصيلها ومتغيراتها التي تحتاج إلى الكثير لمواجهتها .. بينما لا يملكون لهذه المواجهة سوى التكيف ..

وفي تكيفهم المعيشي مع واقع المخيمات ، نجد نماذج رائعة تجسد مقدرتهم الفذة على تحسين هذه المعيشة وسد الثغرات بكافة الوسائل والطرق ، أستهل الحديث عنها بنموذج من تكيفهم مع الطعام ..

فحين حاول الكبار تقبل الطعام التركي والتأقلم معه ، عجز عن ذلك الأطفال الذين اعتادوا على طعام بلادهم بلمسات أمهاتهم .. وأصبحت هذه المشكلة مستعصية في ظل عدم توفر البديل أو المواد اللازمة للطهي ، كما أصبح إيجاد الحل لها حاجة يومية ملحة ، دفعت الأمهات الى ابتكار الحلول ..

فكان الحل عند بعضهن هو استخراج اللحم من الطبق التركي ، ثم جمعه مع ما هو مألوف لديهن من الأطباق الأخرى والمقبلات ، بينما كان الحل عند من توفرت لديهن وسيلة للطهي هو إعادة طهيه بطرق وأشكال مختلفة أملاً بأن ينال القبول والاستحسان ..

ومن الأطباق التركية المقدمة اليهن ، استطعن إنتاج أصناف جديدة قريبة المذاق مما اعتاد أطفالهن عليه ..

أما تكيـفهم في المسكن فيجسده ما قاموا به من أعمال إبداعـية لتوفير مستلزماتهم ، عن طريق الاستفادة من مخلفات وتوابع ما يصل اليهم من أغراض وذلك بجعلها تخدم أهدافاً أخرى ، حتى غدت هذه المخلفات التي ترمى عند غيرهم ، كبيرة في القيمة والأهمية عندهم ..

لقد قسموا قارورة الماء الفارغة إلى نصفين وتخلصوا من الجزء العلوي منها بينما استخدموا الجزء السفلي بذكاء ، فعلقوه على جدار الخيمة ليصبح حمالة تحمل ما قل حجمه وخف وزنه كالمشط والسكين والقلم ..

وعلى جدار آخر علقوا قطعة من كرتون بعد أن قصوا أجزاء منها بطريقة منطقية مدروسة ..

هذه القطعة كانت في السابق حمالة للبيض ، وأصبحت اليوم بإبداعهم صيدلية تختزن الدواء ..

ويتجلى الإبداع في حكاية سلال الخضار المستطيلة التي لم تعد تخلو خيمة منها ، حين استخدموها لمختلف الأهداف وبمختلف الأوضاع .. فتارة ترى السلة مشدودة بالحبال إلى الأعلى وكأنها رف يحمل الأشياء ، وتارة تراها مقلوبة بشكل عكسي وكأنها منضدة تستقر فوقها الأشياء ..

وتارة تراها في وضعية مائلة ما بين الوضعيتين ، وكأنها أدراج صممت لتحوي مختلف الأدوات ، الكتب والمشط والدواء  .. كذلك حال الصناديق الكرتونية الفارغة التي رصت عامودياً فوق بعضها البعض ، ثم استخدمت كخزانة تضم داخلها الأمتعة والثياب.. وكل ما يخطر على بال ..

وفوق كل هذا وذاك .. أسدلت أغطية ملونة ومدات ، لتذكر الوجدان بمنزل كان ..

وشيئاً فشيئاً .. بلمساتهم وابتكاراتهم من ناحية ، ومساعدات وإمدادات خارجية من ناحية أخرى .. استطاعوا تأمين العديد من احتياجاتهم ، بل وأوجدوا في خيمهم المطابخ المرتبة .. وغرف الجلوس المنسقة .. وموائد الطعام المقبولة .. وأدوات صنع الشاي والقهوة ..

إنها الإرادة التي كسرت الأسوار..  وشحذت هممهم للعمل والابتكار ، فكشفت عن عقول مبدعة وأنامل منتجة استطاعت أن تنتج المفقود من الموجود ..

بل هي حكاية مقاوم ، يقاوم العجز بالمقدرة .. والرضوخ بالتحدي .. والفناء بالبقاء ..

حكاية عنوانها الإرداة والتكيف ، وترويها قطع من كرتون أو معدن أو ورق ..