وخزة بسيطة

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

كان مبنى الصحيفة يعج بالمحررين و الصحفيين و المندوبين ، يتابعون تدفق المعلومات عبر الشبكة العنكبوتية. جهاز الفاكس كان مثقلاً بالأخبار نوعا ما عصر ذلك اليوم ، هدأ فترة وجيزة  ، و فجأة انتفضت ورقة من جوفه. مد الصحفي الشاب يده يتلقف ما بها من أخبار..." حادث مؤسف لقطار أدى لخروج عدد من عرباته عن الخط و خلف الحادث عشرة قتلى و عشرين جريحاً ...". لا يدري الصحفي الشاب( أسامة) ما الذي جعله يتابع التفاصيل الدقيقة للخبر المفجع رغم أنها مهمة تناط عادة بزميل آخر سيما و انه كان متخصصاً في الشئون الرياضية.ما أن وصل إلى قائمة الوفيات  حتى بدأ يستعرضها قتيلاً قتيلاً كأنه يبحث عن شئ ما .أصابه ذهول شديد و حزن لا يوصف و هو يقرأ في رأس القائمة اسم ( ر.ص.ع) فهو اسم زوج عمته المسكينة التي تعاني من اضطراب في عضلات القلب. وقع في حيرة ، هل يبادر و يتصل بها معزياً أم هل ينتظر إبلاغ السلطات لها بما حدث؟. ناقش مع زملائه المسالة لكنهم اجمعوا على ضرورة أن يتصرف هو و يقوم بالاتصال بها مباشرة سيما وأنها تكن له مشاعر الود و على اتصال دائم بها .في ظل توتره و تردده توصل زملاؤه إلى حل وسط بحيث يكتب ما  جرى في رسالة مقتضبة و ينقلها احد أصدقائه إلى عمته حيث تسكن سيما و إنها كانت تقطن في مبنى معروف مجاور للبلدية.وافق زميله على مضض خشية مضاعفات الخبر على العجوز و ألقى بنفسه خلف المقود و انطلق.

     على عتبة إحدى الأبنية العتيقة في البلدة و المجاورة للبلدية كانت تجلس امرأتان...واحدة تجاوزت الستين و تدعى ( مريم ) و جارتها التي شارفت على الأربعين. كانتا تقتلان الملل عبر التأمل في العابرين تارة ، و استرجاع صدى الأيام الخوالي تارة أخرى.

      - "إن سرد حكايات الماضي البعيد يخفف من أوجاع تنهش صدري من وقت لآخر" قالت الأولى

-       " أطال الله في عمرك ، دعيني آخذك للمركز الصحي لنطمئن على صحتك" اقترحت جارتها

-       " لا ، إنها وخزة بسيطة - لا تقلقي"- أنهت مريم الموضوع بسرعة.

تتوقف سيارة خضراء عند المبنى العتيق على مسافة قريبة من المرأتين و ينزل منها شاب في مقتبل العمر و يسأل عن بيت السيد  عثمان و كان ينظر في ورقة صغيرة مدون عليها العنوان.

-       تفضل يا  ابني  لقد وصلت ، فأنا زوجته..قالت بصوت مرتجف. تقدم الشاب و ناولها بيد مرتعشة  مغلفاً في داخله الخبر المؤسف و عاد مسرعاً نحو السيارة دون أن يتيح لها مزيداً من الأسئلة.

استلمت المغلف و فتحته لها جارتها  و بدأت بقراءة ما بداخلة ، و ما هي إلا لحظات حتى كانت مريم تمشي  على ساقين متعبتين أصابتهما هشاشة  و تحس بوخزة مؤلمة من جديد أشد من سابقاتها.انهمرت دموع ساخنة و ما هي إلا دقائق حتى كان منزلها مزدحماً بجاراتها فانفجرت بالبكاء و العويل و ظل البيت يعج بالمعزيات المتشحات بالسواد حتى الهزيع الأخير من الليل.

 الفراغ يخيم من جديد على البيت و مريم تصارع الحزن ووخزة الصدر و أدركت في الأسبوع الثالث من ملحمة الحزن أنها متجهة لا محالة إلى المصير المحتوم لو ظلت في هذه الأجواء الجنائزية.بعد انقضاء  الشهر الثالث شوهدت مريم و هي مقبلة على الحياة بشكل لم تعهده جارتها الشابة ، و لما حاولت أن تستوضح الأمر ومعرفة سر ابتسامتها وألوان ملابسها الزاهية ، لم تدخل مريم في التفاصيل و قالت باختصار:"لقد انزاحت عني بموت المرحوم هموم كثيرة و قيود جمة....قررت أن أكون صادقة مع نفسي مرة واحدة و للأبد، نعم لقد جاء رحيله رحمة ، و بداية لصفحة جديدة مع الحياة التي لا تتوقف بموت احد و لو كان زوجي!"

 صعقت الجارة مما سمعت و كادت لا تصدق ما ترى و قالت وسط دهشتها :" ما سر حزنك  إذن عندما تلقيت الخبر؟".

-       " كانت دموعي حسرة على أيامي التي ضاعت بلا أبناء يقيلون عثرتي في أيامي العجاف....لقد خدعني بتقاريره الطبية الزائفة التي كانت تشير الى أنه معافى و سليم و قادر على الانجاب حتى جاءت اللحظة التي كشفت لي أكاذيبه  من خلال ممرضة صديقة كانت تعمل عند طبيبه. لقد كانت واثقة مني حين أقسمت لها بأنني لن أتحدث معه عن ذلك ما دام حياً !"

-       "لقد ساعدته على خداعك عندما لم تتحدثي معه "

-       ليس الأمر بهذه السهولة إذ أن انكشاف سره جاء متأخراً في وقت كان الحمل لدي في تلك السن مسألة غير آمنة.انطوت صفحة من خداع استمرت سنين طويلة كنت أصدقه فيها ، و أصبحت أنام الآن بعيداً عن شخيره و حياته المبنية على التزوير

ظلت قصة مريم التي أقبلت على الحياة في خريف عمرها حكاية الموسم في الحي ، إلا أن أحدهم لم يذكر شيئاً عن خداع الرجل و شخيره الذي استمر عقوداً