مها الفايسبوكية @ محمد الفايسبوكي
محمد الهجابي
أطلّ محمد عليها عبر الفايسبوك، ثمّ عيّنَ بالسهم خانة طلب صداقة، ونقرَ. دقائق طويلة بعد ذلك، أطلّت مها عليه منْ خلال رُكن رسائل جديدة، في حسابِه بالياهو، تقبلُ صداقتَه، فسارعَ، من جهته، إلى النّقر على الفايسبوك، وإذا بمحياها المليح يشرقُ ملءَ نظره. ومنئذٍ طاش سهمُ الولد. يظلّ يتقلّبُ في الفراش، ولا يغمضُ له جفنٌ. هل أصابَ سهمُ كيوبيد منْه المقتل؟
فتاةٌ فاتنةٌ، وتقبلُ به صديقاً، كيف؟ احتفظ بسرّه، ولم يفض به لمخادنيه. لم يكن يرغبُ في أن يشاطرَهُ أحدٌ هذا الحدث المدهش. والحدثُ مدهشُ وزيادةٌ.
تلك كانت طلّته الأولى في الفايسبوك. طلّة فأل خيرٍ. أنشأَ صفحةَ حسابه، ثمّ فتحَ، وإذا به وزان وجهٍ نظرٍ. بل قلْ أمام وجهٍ خارقٍ. شابةٌ في تمام سنّه. ليس بالضبط كذلك، لنقلْ إنّها تصغرُه بسنةٍ واحدةٍ. نقرَ على خانة المعلومات يطلبُ المزيد من المعطيات. مسحَ اهتماماتها ببصره. المغنّون نفسهم. الأفلام ذاتها. كيف يحصلُ هذا؟ لا يمكن أنْ يكونَ ما يجري محضَ صدفة، فكّرَ. كثيرٌ على صدفة طارئة. هذا قدرٌ، هجسَ.
رأى وجهها، فخفقَ كيانه بكامله. يدُه التي تمسكُ بالفأرة، أخذته إلى خانة طلب صداقة، فنقرَ في التوّ. تلك كانت أولى نقراته عقبما استوت صفحته الفايسبوك قدّامه، أقصدُ بعدما عبّأها بمعطيات لازبةٍ من سيرة حياته وحاجاته. ونقرةَ خيرٍ كانت. وها هو الوجهُ الأنثوي البهيّ يرحّبُ به صديقاً. نقرتُه هذه لم تتلوها نقراتٌ جديدةٌ. لا يحبّ أن يزيدَ على هذا الوجهِ بوجهٍ إضافي. هذا الوجهُ يكفيه. لنْ ينقرَ على طلب آخر، ولنْ يقبل بطلبات صداقة. سيظلّ يفتحُ على الوجه النّظِر في كلّ حين، حتّى يترسّخ في ذهنه، وتنمحي أمامه، بالمقابل، وجوهُ باقي الإناث. لنْ يبدّل أنثاه بأنثى أخرى. في الصباح سيفتحُ عليها. وكذلك سيفعلُ في الظهر والمساء. قبلَ أن يبارحَ إلى الكلية يفتحُ، وحينما يرجعُ يفتحُ. ينقرُ، فتستقبلُه ابتسامةٌ تزيّنها شفتان بضتان شهوانيتان، تخفران أسناناً بيضاءَ ناصعةً منضودةً بلا شائبة تُذكرُ.
أمرُ هذا الفايسبوك حقاً عجيبٌ، قال محمد في خاطره صباح هذا الأحد، فيما هو يتمدّدُ فوق فراشه. ثمّ يركّزُ بصره عندَ نقطة في السقف، ويجعلُ يثقبُ فيها بنظره وخياله، ويوسّعُ من محيطها، حتّى إذا حوّل الثقبَ إلى حفرةٍ، أنبتَ جناحين له، وانسلّ إلى الخارج يرومُ الأمداء صوبَ لبنان.
يقولُ بروفيلها إنّها من طرابلس. هو لم يكن يعرفُ سوى طرابلس ليبيا. الآن، صار يعرفُ طرابلسيْن. إحدى الطرابلسين في شمال لبنان. بحثَ في الأنترنيت، فعيّنَ له الجهاز موقع طرابلس الغرب وطرابلس الشرق. هذه الأخيرة، توجدُ على بعد 85 كيلمتر من العاصمة بيروت. تطلّ على البحر الأبيض المتوسط. تماماً كما طرابلس ليبيا. بيد أنّ طرابلسه هو تشرف على جزيرة قبرص. لا تشرفُ عليها مباشرةً، وإنّما هما في الخطّ نفسه، أو هكذا تصوّرَ. الخارطة تقولُ ذلك، يصرّحُ. هو سمعَ بقبرص من أحد أصدقائه. وصديقه روى عن أبيه. والأبُ حكى كيف انتقل في سفرية له إلى تركيا من إسطنبول إلى قبرص الشرقية، حيث اشتغل لوقتٍ مع الفلسطينيين. والصديقُ لا يزيد عن هذا الكلام بآخر. والساعةُ، ها هو فوق سريره، وقد نفذَ من حفرةٍ بسقف الغرفة في هذا الصباح، يعبرُ بجناحيه فوق البحر في اتجاه طرابلس. سيمرُّ فوق إيطاليا، ثمّ اليونان، فتركيا، ومنها إلى طرابلس. باليقين، لنْ يحلّق فوق بنايات مالطا. لن يعبرَ فوق الضفة الجنوبية للبحر. سيتفادى طائرات إسرائيل. حتماً، لن تسمحَ له بالمرور. ثمّ إنّ الضفة الجنوبية تشتعلُ اللحظة بنيران الأنظمة والثوار. لذلك، لنْ يجازف، فيندم. والأحكمُ أن يختارَ الضفة الشمالية. هي الأكثرُ أماناً، حتّى وإنْ كان التلفزيون ينقل عنها خروج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع. والسي محمد لا تهمّه أزماتُ بلدانها، قدر ما يعنيه كيف يصلُ إلى طرابلس.
في سريره الضيّق، وهو ممدّدٌ على ظهره، يخزرُ سقف الغرفة، ويصنعُ له، عبره، طرقاً نحو فاتنته. في أوقاتٍ، يرى نفسَه رفقةَ الفاتنة يجوبُ شارع المينا، فشارع جمال عبد الناصر. أو يتجوّلُ بصحبتها في شارع باسل الأسد، وربّما في شارع عبد الحميد الرفاعي، فزقاق سيدي عبد الواحد، ثمّ جامع عبد الواحد المكناسي، فمقام عبد السلام المشيشي. وتهمسُ له فاتنته إنّه في حضرة مغاربة، وأنّه، في حقيقة خبره، لم يغادر المغرب قطُّ.
أحياناً، تقطعُ عنه جولاته هذه حركة في الشقة، فيقفزُ من السرير ليغلق نافذة الفايسبوك. لا يريدُ أن يدخلَ أحدُهم الغرفة، في غفلةٍ منه، فيكشفَ سرّه. والسرّ لم يبق في ملكه هو وحده. لم يعد ينفردُ به بعدما أضحت الفاتنة الفايسبوكية تواطئه عليه. هو سرّهما، هما معاً. يتشاركان فيه. هو منْ هنا، وهي منْ هناك. وسيظلان كذلك إلى حين.
أغلقَ الولدُ الفايسبوك، وأوقفَ نظام العمل. ولكم تمنّى لو بقي محلّقاً في فضاء رحلته صوب مشرق الشمس. يعرفُ، الساعة، أنّ شمسه باتت تطلعُ منْ طرابلس، وتغربُ في القنيطرة، عند شاطئ مهدية بالتحديد. لكن، متيقنٌ هو منْ أنّ الرحلة لنْ تتعبَه، بينما هو يشقّ سبيله في اتجاه الفاتنة؛ فاتنته. وهل يتعبُ العاشقُ؟ أغلقَ الجهاز بالمرّة، وسحبَ الموديم. ثمّ خرجَ إلى الكلّية.
وفي الكلّية، فكّرَ لو كان يمتلكُ جهازاً محمولاً لربّما عثرَ على مكانٍ بالحرم الجامعي وفتحَ الفايسبوك. قد تكون ثمّة رسالة منها في انتظاره. ربّما بعثت إليه بردٍّ. لعلّها تكون تفاعلت مع رسالة الشكر. لا بدّ أن تكونَ فعلت. حدسُه يخبرُه. قال لها إنّه يشكرها على قبول الصداقة. واللحظة ينتظرُ رسالةً تأتيه منها تشكره على شكره لها. ومنْ ذلك، سيفهمُ أنّ التعارفَ بينهما اتّخذ منحى جديداً. وقطعاً، لنْ تكون رسالتها الأخيرة. متأكدٌ هو منْ ذلك. وحتماً، يخمّنُ، لو أنّ المحمول كان بحوزته لوجد موضعاً مناسباً بالحرم كي يفتحَ الفايسبوك أو الياهو. الردّ قد يجيئه عبرهما في الوقت عينه. وقد يجئ عبر أحدهما فحسبُ. لربّما انزوى في ركنٍ منْ مكتبة الكلّية، بمنأى عن باقي الطلبة، وأبحرَ إلى طرابلس.
مها، الاسم جميلٌ. لكن يكون أجملَ حين يأتي موصولاً بالكنية. مها الطرابلسي، هكذا أحسن. يكون أجمل لمّا يأتي الاسم كاملاً. يلفظُ الاسمَ بين شفتيه ولا يشبع. لكأنّه يودّ لو يلتصق الاسم بفمه ولا يبارح. مها! منْ سمّاها؟ من اختار لها هذا الاسم دون الأسماء جميعها؟
في المساء، لم يجالس أصدقاءه عند ناصية الدرب. وكذلك، لم يجتمع مع الأسرة بالصالون. قالَ لنْ أتعشّى. شبعان، قالَ. العاشقُ يتغدّى منْ عشقه. انحجرَ في غرفته، وشزرَ إلى كتبِه ودفاترِه، ثمّ استوى قدامَ الجهاز مستعداً للإبحار. فرّك يديه، ونفخَ فيهما، ثمّ فرّك من جديد، كما لو يحضّرُ لقيادة مركبة فضائية. شغّل الجهاز، فجاءه الجوابُ مشمولاً بترنيمات الانطلاق المموسقة، وبموجات من الألوان. ثمّ أتاه الضوء الساطع منْ خلل الشاشة محمّلاً برموز. وجّ الضوء في الغرفة، فخفقَ هو في قعدته على الكرسي، ثمّ كمشَ باليمنى على الفأرة ذات اللون الأسود البارق. حرّك السّهم على صفحة الشاشة كيفما اتفق، حتّى إذا شرعَ الأخضرُ يغمزُ في عينِ الموديم، سدّد السّهم نحو غوغل. كتبَ الاسم يتيماً من الكنية. مها. سأل القاموسَ عنْ معنى اللفظ، فجاءه الجوابُ: «المهاة: الشمس، ويقال للكواكب: مها، ويقال: للثغر النقي إذا ابيض وكثر ماؤه: مها، والمهاة الحجارة البيض التي تبرق وهي البلور، والمهاة البلورة التى تبرق لشدة بياضها، وقيل: هي الدرة والجمع مها، والمها: البلور، والمهاة: بقرة الوحش، فإذا شبهت المرأة بالمهاة في العينين، فإنما يعنى بها البقرة، فإذ شبهت المرأة بالمهاة في البياض فإنما يعنى بها البلورة أو الدرة على الشبه بالبلورة، والدرة سميت بذلك..». بدا له الاسم مضرّجاً بالمدهش، موشوماً بالغرائبي. ثمّ نقرَ على الطرابلسي. مئاتٌ منْ آل الطرابلسي. من الإناث طلع ما لا يتعدّى أصابعَ اليد الواحدة، ومنْ ذلك رانيا الطرابلسي وليلى الطرابلسي. الاسم الأخير، أحالَه مباشرة على زين العابدين بنعلي. شزر الاسم بنظرٍ لا يخلو من كراهية. كُرهُه للاسم من كُرهِه لزوجة بنعلي، منْ كُرهه لبنعلي. في سرّه، قرّر أن يتحقّق من غياب أيّ شبهة ما بين اسم فاتنته وآل الطرابلسي منْ بنعلي ومنْ ليلاه.
وجّهَ السّهم، هذه المرّة، إلى حيّز الصور. هجمت عشراتُ الصور على الشاشة. صورُ وجوهٍ، وصورُ أشكالٍ. بعضُها لا يؤدي معنى في حينه، بيدَ أنّه يلفتُ النّظرَ. راح يستعرضُ الوجوهَ دون غيرها. وعبثاً، سعى إلى العثور على صورٍ إضافية لمعشوقته. وفيما خلا صورة الفيسبوك، لم يحصل على صورة لفاتنته منْ باقي الصور. لوّى شفتيه، ونفخ في الهواء. أغلقَ حيّز الصور، وعادَ إلى الويب مهزوماً. كأنّ الجهاز هزمه.
بارحَ الكرسي، وتشبّحَ على الفراش الضيّق. ثمّ تخيّل ريحاً تصله منْ الحفرة في السقف. سأل الريحَ عمّا إذا كان بإمكانها أن تحملَ صوته عبرَ الأثير إلى طرابلس. تمنّى عليها لو تتربّع على شرفة أذن مها الجميلة، وتهمس لها بأنّه لا يزال هنا أمام الفايسبوك ينتظرُ رسالةً منها. وقال للريح إنّه سيتمدّدُ كلّ مساء فوق السرير، ولن يردّم الحفرة. سيحتفظ بها مفتوحة عن آخرها ومقلوبة؛ حفرة مقلوبة. سينتظرُ أوبتَها الظافرة، وهي محمّلة بصوت مها. سيتركُ صغوَ أذنه مستنفراً لكي يحتفي بالصوتِ الرقيقِ، بينما هو ينمّشُ فيه بالتفاعل مع ندائه اللاهب.
يهبّ محمد إلى الفايسبوك، ويفتحُ على صورة مها. يدقّقُ النظر في تفاصيل المحيا كأنّما يبصرُه لأول مرّةٍ. ينظرُ إلى الابتسامة المشعّة، ويستحضرُ الاسم، في الآن عينه. ينظرُ، ويردّدُ الاسم بين شفتيه مثلما لو يترنّمُ بلحنٍ. يحرّفُ وجهةَ الجهاز قليلاً. ثمّ يعودُ إلى الفراش، ويحتبي فوقه، مسنداً ظهره إلى المخدّة. ومنْ موضعه ذلك، على الفراش، يثبّتُ عينيه على الشاشة، فتتجلّى له ابتسامة الصورة في كامل بهائها، لكأنّ عصافير صغيرة ترفرفُ فوقها مزقزقةً وجذلانةً.