يوميات بلا أسرار 2

يوميات بلا أسرار

الجزء الثاني

ثورة في المخيمات

نسيبة بحرو

يقولون أن هذا مسكني .. ولكن .. ماالذي جرى لمنزلي ؟

مالي أراه ضيق الأرجاء ، دون نوافذ أو أبواب ؟

 ومالي أرى الجدران مائلة ، والسرير متساوٍ مع التراب؟

 ومالي أرى الأغراض مكدسة في مكان واحد .. ألم يكن في منزلي لكل منها مكان؟

عفواً .. لماذا يجب علي أن أقطع المسافات ، وأنتظر دوري لأدخل الخلاء ؟!! .. ألم يكن في منزلي خلاء؟!!

عجباً .. أين غرفتي لا أجدها .. وأين ألعابي ، وأين كتب الدراسة ، وأين مخططات العمل ، وأين الأحلام ؟

فتحت ستاراً يشبه الباب ، وخرجت متسائلاً ومعترضاً  ، فوجدت أمامي أكواماً من الطين والرمال ..

ومنزل جاري الذي شكى نفس الحال ..

وعندها فقط .. تذكرت أن مسكني لم يعد منزلي .. وأنني الآن لاجيء ، ومسكني خيمة في المخيمات ..

***      ***      ***

هذا حديثٌ دار في نفوس اللاجئيين السوريين على الأراضي التركية ، حين انتقلوا إلى حياة جديدة تختلف اختلافاً جذرياً ومن كافة الجوانب عما كانت عليه حياتهم وأوضاعهم في مدنهم وأريافهم السورية ..

حالهم حال نبته اقتلعت من جذورها وزرعت في أرض بعيدة .. التراب ليس ترابها .. والماء ليس ماءها ، والهواء ليس هواءها .. ولولا أن الشمس واحدة ، لقلت أن الشمس ليست شمسها ..

لكن عزائها بالشمس ، المشترك الوحيد بين هذه الأرض الغريبة وأرضها ..

هذه الغربة لم تدفعهم للاستسلام ، وبذات الإرادة التي تحدوا بها القمع و الظلم فوق أرضهم ، استمروا بهذا التحدي في غربتهم ، ومن أفكار ومعدات بسيطة ، خلقوا الأجواء التي تجسد قضيتهم وثورتهم ، وجعلوها واقعاً يعيشون به ويعيش بهم ..

فبدأوا بتسمية المخيمات بأسماء مطالبهم وكتبوها على لوحات كبيرة ، فهذا مخيم الحرية .. وهذا مخيم العدالة .. وذلك مخيم العزة .. اشارة منهم إلى أنهم ماضون في هذه المطالب ، مصرون على تحقيقها مهما كان الثمن ..

ثم أعدوا المقابر .. لا لدفن أحزانهم وآلامهم ، وإنما لدفن المتسببين بها والمقصرين في عونهم ونجدتهم  .. وبما توفر من قصاصات الورق ، كتبوا أسماء الموتى على القبور .. فهذا قبر للجامعة العربية ، وذلك قبر لغير الشرفاء من هيئة علماء المسلمين .. ثم كتبوا ( لم يبق لنا إلا الله ) ، مفوضين أمرهم اليه ..

أثبتوا أنهم مع اخوانهم قلباً وقالباً بعبارات سطروها وطلبوا بها العون والغوث للشعب السوري الجريح .. فكتبوا على الأحجار نداء استغاثة ، التمسوا به نجدة حاكم عادل يلبي النداء كما لبى المعتصم ، بينما كتبوا على جدران المخيمات دعواتهم وأمنياتهم بالنصر العاجل القريب ..

 ومن أجمل ما سطرته أقلامهم مناجاة خرجت من قلب مُبعد حزين إلى بلد سجين ..

 ( سورية يا حبيبتي .. أعيدي لي حريتي .. سنرجع يوماً )

 أدمنوا المظاهرات ، وسرت جرعاتها في أجسادهم مسرى الدم ، فأصبحت لهم في محنتهم الملاذ الوحيد لاستشعار القوة والكرامة والأمل المشرق المنتظر .. وكلما قل تأثير هذه الجرعات في النفس والجسد  ، كلما ارتشفوا جرعات أخرى يستمدون منها وقود الاستمرار ..

ومن خلف الأسوار .. علت الأصوات وارتفعت أيادي الأحرار، هتفوا للحرية ولحقوق الإنسان المنسية .. تسلقوا الأعمدة ورفعوا الشعارات .. أملاً بلفتت اهتمام من الإعلام ،  تنقل لأخوانهم في سورية دعمهم رغم البعاد .. وتحكي للعالم قضيتهم وقصة اصرارهم رغم الآلام ..

تظاهر جميع أهالي المخيمات بلا استثناء .. الرجال والأطفال والنساء ، بما فيهم ذوي الاحتياجات الخاصة الذين شملهم اعتداء النظام السوري،  لم يمنعهم عجزهم عن التعبير عما في قلوبهم .. فهتفوا بشعارات ثورية .. يُفهم منها لحنها ، لا الكلمات ..

مظاهرات عديدة وفي كل الأوقات ، أذكر منها مظاهرة طفل بريء ذو وجنتين حمراوتين صبغتهما أشعة الشمس بلهيبها ، حين هتف وبقوة الرجال : ( الشعب يريد اعدام .... النظام )

***      ***      ***

هذه ثورة لم تخمدها مشقة المخيمات ، ثورة اشتعلت فوق الأراضي السورية.. وتأججت فوق الأراضي التركية .. وستبقى متوقدة هنا وهناك ، حتى يسقط النظام .