وينتصر الحب
د. الجيلالي الغرابي
[email protected]
(صابر) الآن شيخ هرم قد طار غُرابه، واشتعل رأسه شيبا، أما (حليمة) فهي الآن عجوز قد بلغت من الكبر عتيا. وما يزالان يحييان حياة مليئة بالحب والتفاهم، والسرور والتفاؤل، كما كانا طفلين، أو كما كانا شابين...
فلقد لعبا معا في طفولتهما، ومرحا، وتسلقا السواقي، وتبادلا الورود والزهور، واتخذا الغاب منزلا دون القصور، زاهدين في ما تخفيه لهما الأيام والدهور، وانطلقا تحت ستر الغروب إلى منزليهما كما ينطلق الطيران قافلين إلى وكريهما...
ولجا الفصل في يوم واحد، وقعدا جنبا إلى جنب في مقعد واحد، وقطعا مسافة الطريق يدا في يد جيئة وذهابا، فنشأت بينهما علاقة حب عفيف، وتعاهدا على الزواج مهما كلفهما ذلك من ثمن وتضحية...
أخذا يكبران، فكبر بكبرهما حبهما إلى أن صار هياما... فاتحا أبويهما في الموضوع، فلم يبديا أي تحفظ أو رفض... أنهى الشابان دراستهما الثانوية بنجاح، وأحرزا شهادة الباكلوريا، ففكرا في أن يجربا حظهما علهما يبلغان هدفهما، ويختصران المسير، فيبنيا عشهما...
جمعا الوثائق اللازمة، وأرسلا ملفيهما إلى مركز تكوين المعلمين والمعلمات، تم انتقاؤهما، وشاركا في الامتحان الشفوي... اِستبشرا خيرا، وتضاعفت أحلامهما، ولم يعد يفصلهما عن تحقيق رجائهما سوى أيام قليلة معدودة... أعدا العدة للاحتفال بزفافهما، وفرح كل أفراد عائلتيهما...
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وقد تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن، فقد أعلن عن النتائج بنجاح حليمة، وإخفاق صابر... نزل الخبر عليهما كالصاعقة التي هدت كيانهما، ودمرت وجودهما... كل ذلك لم ينل شيئا من صرح علاقتهما الشامخ، وتعاهدا من جديد على أن يظلا وفيين لحبهما، مخلصين له الإخلاص كله، وأقسمت حليمة على مسمع من الجميع ومرأى منهم أنها لن تنقض وعدها، ولن تدنس طهارة غرامها، ولن تقبل بغير صابر زوجا لها...
هبت عاصفة الخيبة على صابر، فاقتلعت جذوره، وهزت شعوره، وشتت شمائله، وقوضت أركانه... وصار أشبه ببلبل صداح في قفص من الحديد، أو طائر شادٍ على غصن فرعه المياد...
أشارت عليه حليمة بأن يواصل دراسته الجامعية، وألا يستسلم للهزيمة، وأن أبواب الأمل ما تزال مفَتَّحَة على مصراعيها أمامه، وهي تنتظره إلى أن يبلغ مراده...
قصد صابر الجامعة يجر إليها أقدامًا مثقلة، وينقل نحوها خُطْواتٍ ذليلة، ويخفي بين ضلوعه قلبًا جريحا، وجناحًا كسيرا...
كانت أيامه تسير بطيئة سيرَ سلحفاة على رمال وَعْثاءَ، وما كان منه إلا أن أرخى عنانه للحياة كزورق أرخى شراعه للرياح الأربع تتقاذفه، وتلاعبه كما يلاعب الذئبُ الحَمَلَ الصغير، وتتجاذبه الأمواج كما تتجاذب الأسْدُ أشلاءَ الفريسة...
طلب شباب كثر من ذوي السلطة والثروة والجاه يد حليمة للزواج فأبت، ورفضت رفضا قاطعا، ولم يزدها ذلك إلا تعلقا بصابر، ووفاء لحبها المقدس الطاهر...
حاول أبوها مرارًا أن يقنعها بالعدول عن رأيها وأفكارها، والتخلي عن تلك الأحلام الزائفة التي شغلت خلدها، وملكت عنها نفسها، وهددها تكرارا، وسخر منها، وحط من قيمتها، متناسيا ذلك الوعد الذي به وعدهما...
واصلت حليمة إلحاحها وإصرارها وكلها يقين من أن صابرا سيعود من البعيد البعيد، وأن نجمه لن يأفل، وأنه متخطٍّ لا محالة جميع العقبات والصعاب، ولن يكون إلا ما أراداه طال الزمان أم قصر، وأن حبهما منتصر منتصر منتصر...
تابع صابر تفوقه في الدراسة، ورُغم ذلك تحطمت قوائمه، وظل جسمه يرتعش ارتعاشة الأوراق الذابلة بين أيدي الأنسام، وأصبحت الشكوك تؤرقه، والخواطر الحالكة تعذبه...
كان ينظر صرح آمالهما يتحطم شيئا فشيئا، وينهار رويدا رويدا، ويعلو مكانَه غبارٌ قاتم يحجب كل شيء... ما أقسى أن يقطع المرءُ قلبَه إربًا إربا، ويطعمه محبوبَه، ولا شيء أشد وقعا عليه من أن ترد إليه هديته...
مال إلى الوحدة والعزلة ليفتش عن نفسه في أعماق نفسه، وفي الوجود عنه، ورأى كيانه سرابًا ووهمًا وخيالا، فتحول عن كليته، وأنكر شخصيته، وأهمل حقيقته، وضيع حديقته...
اِنطوت الأيام والأعوام، وأنهى صابر دراسته الجامعية بامتياز كبير، فجمع كعادته وثائقه، وأرسل ملفه هذه المرة إلى مركز تكوين الأساتذة... لقد اختير ضمن المرشحين لاجتياز المباراة الكتابية، وبكل سهولة عبر هذا الجسر، ليجد نفسه أمام عقبة أخرى، ألا وهي عقبة المباراة الشفوية...
جاء الموعد فاختبر، وأصبح في حيرة من أمره، ينتظر نتيجة معركة خرج منها في السابق منهزما شر هزيمة... وها هي ذي الأيام تعود به إلى الوراء، إلى ماضٍ أسود، وها هو ذا مصيره معلق بين السماء والأرض...
وبينما هو يصارع كوابيسَ اليقظة، قرعت حليمة بابه الموصد مرددة بأعلى صوتها:
_أبشرْ يا صابر لقد نجحت، لقد كان اسمك في مقدمة لائحة المتفوقين، لقد اندحر ظلامُ الحزن أمام نور الأمل كما يندحر الليلُ أمام الفجر، وكما يطارد الصبحُ حلكة الظلمة... أبشر، أبشر، أبشر يا صابر لقد انتصر حبنا... لقد انتصر حبنا... لقد انتصر حبنا...
سمع بشراها صابرُ، فانتفض قلبه في صدره انتفاضة عصفور بَلله القطرُ...