الذهب
رؤى صبري
فهد...فهد
دوت صرخة الأستاذ ورج صوته أرجاء حجرت الدراسة فالتفت الطلبة نحوي والتساؤل يملأ عيونهم بينما الغباء يكسو وجهي خاصة أني كنت غارقا في النوم فمن لا يشعر بالملل والضجر والنعاس خاصة يوم السبت ,المهم أني طردت النعاس سريعا من وجهي ووجهت للأستاذ نظرة متسائلة فما كان منه إلا أن يرد بنبرة ساخرة:
هل لك أن تجيب عن سؤالي يا....أستاذ فهد؟
أجبت بنبرة متهكمة:
و ما هو سؤالك؟؟!
فأجاب:
ألا تدرك أيها الطالب الذي تنام أثناء الحصص ، لقد أصبح إهمالك بلا حدود سوف أشتكيك للمدير و أريك نتائج أفعالك.
تثاءبت وأنا أقول:
حقا...أنا الذي أريد أن أشكوك للمدير فما الذي يدعو الطالب للملل إلا إذا كان المعلم يفتقر لمهارات الشرح والتعليم يا أستاذي العزيز من لا ينام في حصتك وهو مغلق العينين ينام وهي مفتوحة ولكنك أعمى البصر والبصيرة.
راح يرغي ويزبد ولم يعلق لأنه أكبر العارفين بمأساته وليس هذا النقاش الأول الذي نخوضه في هذا الشأن فهو دائما ما يحاول إظهاري بمظهر التلميذ الفاشل بينما أنا لا أطيق التعليم بالسرد لا أكثر ، خاصة عندما يكون الطلاب في الثانوية العامة .
عدت إلى وضعية الغفوة التى كنت عليها فلما زال هناك بعض الوقت للنوم إلى أن تحين ساعة الانصراف والعودة للمنزل، حتى هذه العودة لا تخلو من الملل ، إذ يصاحبها ذلك الروتين المعتاد من انتظار الوالد ،واجتماع العائلة على الغداء، ومن ثم ذهاب كل منا لشأنه,دلفت لغرفتي وفتحت الكمبيوتر ورحت أتنقل بين مواقع الانترنت من دردشة وغيرها ، شعرت بالملل ، نظرت للساعة في يدي فعرفت أن وقت القيلولة قد حان ، و ما كدت أدلف لسريري حتى طرقت أمي الباب طالبة مني بعض الحاجيات قفزت من سريري وأنا أطلق أفأ ! فهذا ما كان ينقصني حتى يعكر ما بقي من نهاري،
دلفت للسوبر و حاولت أن أنتهي من جميع الأغراض سريعا حتى أعود للمنزل وأنعم بقسط من الراحة قبل أن ابدأ بالاستذكار ، وعند خروجي لمحت بطرف عيني شحاذاً فقررت أن أعطيه بعض المال مددت يدي ببعض "الفكه" وظلت يدي ممدودة دون أن يأخذها مني إلى أن ناديته :
يا عم ياعم خذ.
رفع رأسه وحينها تبينت ملامحه فهو رجل في العقد الخامس من عمره أبيض البشرة احمر الخدين شعره يميل للون الرمادي عيناه عسليتان تلمعان في ضوء الشمس ثيابه ليست رثة ولكنها قديمة بعض الشئ , له بنية ممتلئة لحد ما وعلى وجهه تعبير مزيج من الدهشة والسخرية والحزن.
تراجعت خطوة وأنا أقول:
أسف لم أكن أقصد.....
سكت حين علت وجهه ابتسامة وقال بهدوء:
هل لك أن تجلس يابني.
جلست وأنا في حالة من الذهول لطلب كهذا وبالرغم من ذلك كان يغمرني شعور بالفضول حول دعوته وشكله ورفضه للمال.
سألني قائلا:
أأبدو متسولاً ؟
هززت رأسي أن نعم ولم أعلق.
صمت لبرهة ثم قال وهو يشير ليديه:
هل تعرف أن هاتين اليدين حملتا صناديق الذهب في احد الأيام؟؟!
هززت رأسي آن لا.
قال:
وهل تريد أن تعرف؟!
رددت بحماس:
نعم نعم أريد أن اعرف.
أخذ نهدة عميقة وفرك عينيه كمن يريد أن يزيل عنهما تراكمات الأيام السوداء التي مرت أمام ناظريه وبدأ السرد قائلاً :
كنت يابني في الثامنة عشرة شابا يافعاً شغوفاً بالرحلات والسفر وقصص الشعوب الأخرى ومن بينها تلك التي ترددت على ذهني مثل حكايات الذهب والثروات المتروكة من مخلفات الحروب القديمة التي درسناها في كتب التاريخ ومن ذلك اليوم رحت أحلم ليل نهار بالثروة التى سأجدها يوما ، وأصبح من أغنى أغنياء العالم وبالفعل اجتهدت في السؤال والبحث حتى حصلت على خريطة لأحد تلك الكنوز المزعومة واجتمعت بعدد من الأصدقاء وشاركتهم الحلم وبدأنا بالحفر والتنقيب وقضينا أيام وليال طويلة ونحن نحفر في الأرض وفي أثناء الحفر كنا نرى دلالات على أننا في الطريق الصحيح ، كأن نجد هيكل عظمي مثلا أو غيره, إلى أن جاء اليوم الذي تكللت فيه جهودنا بالنجاح ، حين وجدنا صناديق من الذهب ثروة تغني أهل المدينة ، بدأنا بحملها فكان أصحابي في الأعلى يلتقطون ما نحمله لهم أنا وصديقي بالأسفل وأخذت على ظهري أول صندوق وكان ثقيل بدرجة لا توصف وبرغم ذلك حملته ولو كان أثقل لحملته أيضا فهذه فرصة العمر وهي لا تتكرر مرتان وكما اتفقنا التقط أصحابي أول صندوق وشرعت بحمل الصندوق الثاني لكني توقفت حين اختفت أصوات التهليل والصياح بالأعلى من أصدقائي وتبادلت أنا وأصحابي نظرات القلق وقررت أن أصعد للأعلى لأتفقد الأمر وحين وصلت وجدت الشرطة في انتظارنا أنا وصديقي ، وفي غضون ثوان كنا جمعينا بقسم الشرطة وكانت قد تمت مصادرة جميع الكنوز التى وجدناها وهكذا تم القبض علينا.
وبتلهف شديد سألته :
وماذا بعد ذلك؟؟!
بدت على وجه معالم ذكرى أليمه وتغيرت ملامحه إلى الحزن وبالرغم من ذلك أطلق تنهيدة أخرى أحسست معها بأن الرجل يحمل هموم الدنيا فوق رأسه وعاد يحكي :
لم يحدث شيء بعد ذلك سوى أنه تم أخذ تعهدات علينا بأن لا نعيدها مرة أخرى ، وبأن ما نجده من أموال وكنوز هي أملاك للدولة والحقيقة أنه تمت مراعاتنا لصغر سننا وطيشنا واكتفوا بإسداء بعض الركلات والصفعات لنا على سبيل التأديب وبرغم أن كثيراً من أصدقاءنا كفاهم ما أصابهم وطردوا الفكرة من رؤسهم ، ظلت الفكرة تلح عليّ أكثر فأكثر,لقد رأيت الذهب ولمسته بيدي كان ما يفصلني عن الغنى خطوات وكيف يتبخر حلمي سريعا لقد تبخر قبل أن يكتمل وبأي حق أنا من وجدت الخريطة وأنا من بحثت ونقبت فكيف لا يكون لي؟كيف لا يكون من نصيبي؟! المهم أن السنين مرت تخرجت من الثانوية ودخلت الجامعة والحلم ما زال يلازمني وفي الجامعة تعرفت بمعيد في الجامعة كان يملك ذات الحلم والأجمل انه يملك خريطة جديدة!!!
هنا علت وجهه ملامح سعادة طفولية جرفتها الذكرى وظل شاردا لبرهة لم أشأ أن أفسدها إلى أن فاق وكأنما تذكر ما كان فيه:
وهكذا بدأنا أنا وهو الصحبة وحكيت له عن قصتي وما حصل معي وهذه المرة قررنا أن نكون أذكى لن نرتكب خطأ ولن نستعجل والأهم أن سر الموضوع لن يخرج لفرد ثالث وعلى هذا الأساس رحنا نجتمع كل يوم اثنين لنقرر ما سوف نفعله واستقر رأينا على أن نقوم باستئجار منزل قريب من مكان الذهب حتى لا نثير الشبهات فيعتاد سكان المنطقة علينا ومن ثم يمكننا أن نحفر إلى أن نستخرج الذهب، لكن المشكلة تكمن في أن موقع المنزل أبعد من مكان المنزل المستأجر ولن نستطيع أن نحفر نفق من المنزل لمكان الذهب وهنا اقترح صديقي أن نستعين بساحر حتى ينقل لنا الذهب فنتمكن من إخراجه,في البداية عارضت الفكرة لكن معارضتي لانت مع إصراره ومع حلمي بالثراء وبدأنا رحلة البحث عن ساحر ورحنا نتخبط من واحد لآخر بين نصاب وسارق إلى أن وجدنا ساحر أثبت لنا صدقه وقال لنا أن الذهب الذي تملكونه مكتوب عليه (لا إله إلا الله) وهذا الذهب لا أستطيع لمسه ومن ثم أرشدنا لساحر آخر قال أن بإمكانه أن يساعدنا وكان الأخير من بلاد أفريقية وبالفعل اتصلنا به ومنحنا الأدلة على صدقه ومعرفته بل راح يقول لي أشياء لم أبح بها لحد قط وعرفنا منه أن الأمر يستلزم حضوره وأن لا يستطيع إنهاء المسألة عن بعد.
رحنا نفكر وندبر المال والعدة لإحضاره خاصة أن تكاليف السكن الذي طلبه ومستلزمات السحر من بخور وغيره لإحضار الجن ليست بسيطة واضطر صاحبي لبيع سيارته واضطررت أنا للعمل بعد الجامعة حتى نستطيع أن نغطي التكاليف كاملة واستمر هذا الوضع لمدة ستة أشهر شعرنا خلالها بالتعب الجسدي والنفسي لكن الأمل في الحصول على ما أردناه رغم إدراكنا أنه كان أكبر منا خصوصا أن الأمر أصبح أقرب للتحدي منه لشيء آخر,وأخيرا وصل الساحر وما كاد أن يحط رحاله حتى بدأ بالعمل لنقل الذهب للمنزل المستأجر كما تنص الخطة وبالفعل قام بنقل الذهب وفي اليوم الذي بدأ استخراجه لاحظنا أن الجو حول المنزل متوتر وجوه لم نألفها تنظر لنا في ارتياب كما أن عدد السيارات زاد فجأة في الحي وحينها عرفنا واقع مرير فنحن مراقبان!!
وهنا توقف عن السرد هنيهة ورشف بعض المياه من قنينة ماء بالية المنظر وعاد ليكمل قائلا:
بالطبع لم يكن هذا في الحسبان بتاتا فهذا آخر ما توقعناه لكن السلطات لم تنسى فعلتنا السابقة، فقررنا الهرب بسرعة ، وقام الساحر بنقل الذهب لمكان آخر وبالطبع في عملية النقل لا يتم نقل المحتويات بالكامل وهذا أسوأ لأن ما سيبقى سيؤكد أن ما عثرنا عليه حقيقة وسيؤكد الشكوك ضدنا ، لكن لا مفر فسنجد طريقة أخرى وهكذا تم النقل وكان ظننا صحيح فبعدها تمت مداهمة المنزل وتم التحقيق معنا ، وهنا كان الأمر أكبر مما ظننا فالسلطات لا تشك فقط لأنها متأكدة مما نعرفه بل تعدى الأمر ذلك لأنها تريد معرفة الساحر الذي نتعامل معه إذ أنها لم تر ساحراً بمثل قوته وقدرته خصوصا أنها تترقب هذا الذهب منذ زمن، وبعد محاورات ومناقشات وإنكارات وبضع صفعات تم إطلاق سراحنا ، إذ فعليا لا يوجد دليل يمكن إدانتنا به,خرجنا مبلييي الأفكار ، خاصة أن الذكرى القديمة راحت تحوم في رأسي فلن استطيع أن أمسك صناديق الذهب مرة أخرى ثم أتركها لآخرين فإما أن أحصل أنا عليه أو لا يحصل عليه أحد وظلت هذه الفكرة مسيطرة على ذهني وهكذا كان علينا البحث عن مكان آمن يوضع فيه الساحر وبالفعل وجد المكان وتكفلنا بكامل مصاريف الساحر من إقامة وغيرها، وفي غضون ذلك الوقت كنت قد تخرجت من الجامعة بينما حصل صديقي على درجة الماجستير وقررت بعدها أن آتي هنا للعمل حتى أستطيع تغطية التكاليف وهي وسيلة جيدة للادخار وهكذا سافرت وبدت لي للوهلة أن الأمور قد تحسنت مع الوظيفة لكن المال يتبخر بسرعة خاصة مع فرق العملة وطلبات الساحر المكلفة وظللت أعمل وأعول الساحر وصديقي الذي يتولى الأمور وراحت السنين تجري سريعا ونظرت حولي ولم أجد أني فعلت شيئا في حياتي فلم أتزوج ولم أنجب ولا أملك منزلا وأنا مقبل على الثلاثينات، وقررت حينها أن نضع حدا للأمر فلقد أخذ منا فوق طاقتنا ، وكما يبدو أن لا فائدة ترجو منه واستقر الرأي على تقل الذهب لمكان معين وأن تكون هذه هي المحاولة الأخيرة وانتظر صديقي ميعاد إجازتي للتنفيذ وهكذا جاء الوقت واجتمعنا لاستخراج الذهب في المكان والزمان اللذان حددهما الساحر وما أن بدأنا باستخراج الذهب حتى ظهرت لنا السلطات مرة وكادت أن تقبض علينا لكني استعطت أن ألوذ بالفرار بينما لم يستطع صديقي ذلك وتم القبض عليه هو والساحر واستطعت أنا بطريقة ما أن عود إلى هنا.
ومع تواصل سرده وأنا أنصت إليه بشغف أطلق زفرة طويلة نبأتني بعذابات السنين والقهر الكامن في وجدانه، ثم أطرق رأسه للأرض وعاد يتحدث بصوت خفيض:
بعد أن فررت رحت أتتبع أخبار صاحبي عن بعد وعرفت انه حكم عليه بالسجن المؤبد أما الساحر فلقد نقل نفسه كما كان ينقل الذهب يوما ما, ورحت أنا أعمل بجهد حتى أعوض ما فاتني في السنوات السابقة خصوصا انه لم يصدر أي قرار بصددي وقدرت أنا أن الموضوع انتهى عند هذا الحد ومرت الأيام والسنين تاركة آثارها على وجهي ولم ينس الحزن أن يضع بصمته على وجهي فلقد خسرت سنوات من عمري وواحد من أفضل أصدقائي راكضاً خلف حلم من المستحيل تحقيقه.
وأخيرا جاء اليوم الذي انتظره للعودة لأهلي ووطني وعند الحدود فوجئت بأنني ممنوع من دخول البلاد وأنه تم سحب الجنسية مني بموجب قرار رسمي,كانت صدمة قوية لا توازيها أي صدمة فأنا بلا وطن بلا جنسية وبدون أهل هذا فضلا عن الخسارة المادية فلقد قمت بتحويل كل ما جمعته من مال والآن لا أستطيع استرجاعه ، بعد أن سحب مني الجواز الوطني,عدت إلى هنا وأنا حالي كما ترى شحاذ لا يسوى شيئا والآن فقط عرفت القيمة الحقيقة لقد كانت الثروة الحقيقة تكمن في الصحة والشباب والقدرة على صنع الثروة عوضا عن سرقتها والذهب الحقيقي هو كونك تنتمي لأرضك ووطنك وأن لا تعيش مشردا بين الناس هذا هو الذهب الحقيقي الذي ضيعته وأنا أبحث عن غيره.
كنت أتابعه و أنا شارد الذهن مع نهاية حكايته لدرجة أنه قام واختفي من أمامي دون أن أشعر به حتى إنني ظننت أني أحلم لكني نظرت حولي لأجد أني مازلت في الشارع أحمل أغراض التسوق بين يدي ، عدت للمنزل وفي ذهني حملت واحداً من أهم الدروس في حياتي وحكمة تنور طريقي ، سأحكيها لأبنائي ومن بعدهم أحفادي تقول : (لا تفقد كنزاً وأنت تبحث عن آخر تمتع بما تملكه وحاول أن تصنع منه كنزك الفريد).
قاصة سعودية