لا معنى لحياتكم إلا هذه
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
تتشابك الأصوات وتعلو الصرخات من هنا وهناك
لن تجد لكلامك معنى .. فعندما تجد من يصغي إليه ويفهمه , تكون قد وجدت المعنى في كلامك , لأنك أوصلت مافي هدفك منه لسامعه ووجدت له صدى في داخله , عندها تجد المعنى الحقيقي له , ولكن في مثل هذه الضجة وهذا التجمع العجيب المتباين , والخليط غير المتناسق , جعلت من ألوان أصحابه لوحة صماء لاحس فيها ولا وجود , وليس فيها مايوحي لفن أو انسجام بين تلك الألوان .
شعر الرجل أن جلوسه في هذا المكان سوف يجعله جزءاً لايتجزأ من هذه اللوحة البائسة , صرخ بأعلى صوته , ولكن صراخه ضاع بين تلك الأصوات , حاول التلويح بيديه , ولكن كانت هناك أيدي تعلو وتهبط وتغطي عليها , عبر عن غضبه بتكشيرة وعبوس وتحديق في الآخرين , ولكن لم يكترث لنظراته أحداً .
كان الرجل مفكراً وأديباً وسياسياً وفي العقد الخامس من عمره , كان طوال عمره الماضي يتحسس الخطا لكي يجد من يسمعه في هذا المكان , لكي يجد لكلماته معنى , حتى يلتقطها الكثيرون من أبناء جلدته .
حاول الرجل الإنزواء وحاول الركون لليأس , فكر في العواقب المحيطة فيه , حاول أن يداري حلمه بيأسه والاستسلام إليه وقناعته بأن هذا هو الممكن وهذا هو الواقع, لتبقى تلك اللوحة لاتعبر عن شيء سوى أنها ألوان صامتة ,تنظر إليها من خلال انعكاس لها على صفحة من الماء تتحرك بحركة أمواجها , متكسرة متعرجة ومتموجة .
هاهو الآن يجلس في العراء على مرجة خضراء في يوم ربيعي جميل , وحوله بعض الأشجار ويستدفيء بأشعة شمس وردية تغطي على خطوط وجهه المتعرجة صبغة وردية , كأنها تمسح أثراً من همومها , ومن حوله بعض الأشجار المتناثرة , وتغريد الطيور من حوله مستبشرة فرحة بفصل الربيع فصل الحب والتزواج والنسل لاستمرار الحياة .
لم يتعود النظر كثيراً للأعلى , ولم يلاحظ في حياته الممتدة جمالاً طبيعياً كما يراه الآن , هي شجرة السنديان هذه , والتي تبقى خضراء طوال العام , ولكن ماسم ذلك الطير الذي يعلوها ؟
شكله كبير ومنقاره مألوف ويبدو أنه ذو انفة وشكيمة
حتماً إنه طائر الحر والذي تغنى فيه الشعراء ولقب الأبطال فيه, وسمي الكثيرون من الرجال باسمه
تذكرت إنه صقر قريش
يضحك الرجل , ثم يسأل نفسه أيكون هذا عبد الرحمن الداخل ؟
استجمع قواه وحاول الوقوف ليحيي صقر قريش ولكن:
حفرة صغيرة أمامه جدباء معراة من خضرتها , في داخلها حركة
إنها كتلة من ديدان الأرض , تتخبط في هذه الحفرة , وفيها ثقوب جانبية فيها مبيت الديدان تلك والتي خرجت لتنعم بهواء وجمال الربيع
لقد اكتشف الرجل عندها سر اللوحة القبيحة والتي تخلو من الجمال والتناسق , فجمال الأشياء بتناسقها ومكانها المناسب , فالذهب جميل ولن يختلف على جماله أحد , ولكن إن وضع الذهب في مكان ما في لوحة او تمثال , لايتناسب مع ألوان تتناسق مع لونه يذهب بريقه وجماله .
فهذه الديدان تولد في هذه الحفرة وتعيش فيها وتموت , فهي مداس لكل الأقدام , ومقززة للنفوس , ونظرها لايتعدى المكان
فلو كان هذا الطائر الرائع حياته كحياة هذه الديدان , لايرى إلا هذه الحفرة , فعندها لن يكون إلا مقززا مثل هذه المخلوقات الكريهة , فالطير عندما يقف على هذه الشجرة يمتد نظره لمسافة محدودة ولكنه لايستطيع المكوث عليها طويلاً , سيعلو إلى السماء وكلما ارتفع فيها كلما وسعته الرؤيا أكثر وأكثر .
ثم رفع نظره وأمعن النظر في الطير , وكأنه شعر أن الطير يخاطبه ويقول له :
الفرق بيني وبينكم كبير
ويرفرف بجناحيه صاعداً في السماء
وزرقة كبيرة يقذفها لتحط في حفرة الدود
وكأنه يقول :
فحياتكم لاتستحق إلا هذه القذارة