جراح

نعماء المجذوب

نظرت إليها بانبهار وهي في بهجة غامرة، قالت:

- لنحلم، ولنحلم، الأحلام لذيذة، نحاول أن نجسدها في الواقع، نسعى، نكد، نكدح، نخطط، وننفذ.

ما أجمل الحلم عندما يصبح حقيقة! نلمسها، نستمتع بها.

غصت وهي تردف قائلة:

- ولكن...

- ماذا؟

- أرى حلمي الذي كنت أناجيه وأعكف على تجسيده ثم أعيشه قد أصبح سراباً، مجرد ذكرى، تهشم وتهشمت معه سنو عمري.

قلت أهدئها:

- عفا الله عما سلف، انسي الماضي يا "رحمة"، واستسلمي لقضاء الله وقدره، ألم يقل رب العزة والجلال: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع، بنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين..).؟

بحزن عميق قالت:

- كيف أنسى الماضي وهو زهرة شبابي، وجل عمري، وفيه جنتي التي كدحت من أجلها؟

أهكذا يضيع كل شيء في لحظات؟

تألمت لحال "رحمة"، قارنت بين حالها اليوم، وما سبق، قلت أخفف عنها:

- عيشي ما تبقى من أيامك بالعمل الصالح ابتغاء مرضاة الله، عنده جنة الخلد ونعيمها، وما فقدته متاع الغرور.

كان كلامي كحزمة ضوء أثارت أشجانها، وأطفأت لهيباً كان يتأجج في أعماقها، صمتت برهة، ثم تساءلت:

- لمَ لم أفكر بمثل ذلك؟

كانت كلماتي نقطة تحول في حياتها، إذ سمعتها تردد دعاء آسية زوجة فرعون (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة).

تغشاها خشوع وهي تقول:

كم قاست آسية من ظلم زوجها فرعون، وكم لقيت من اضطهاد وعذاب! صبرت وزهدت بالقصور التي تجري من تحتها الأنهار، ولم تتطلع إلا إلى رضاء الله سبحانه وتعالى، يدفعها إيمانها الثابت، وعدم انخداعها بالدنيا الزائلة.

وجدت نفسي أمعن النظر في وجهها، أستشف جلاء نفسها، وأنظر إلى شفتيها المطبقتين وهي في صمت وذهول. هززتها برفق سألتها:

- ما بك يا رحمة؟

بابتسام أجابت:

- كلامك هيج في خاطري أموراً كثيرة.

خشيت أن تعود إلى الماضي، رجوتها ألا تفكر فيما فيه التعب والإرهاق.

بتصميم قالت:

- بل سأعود، ولكن...

- بانتقام؟

- لا.. بطريقة أخرى.

كانت زفراتها تصدع في صدرها وهي تقول:

- أمن أحبني أنتقم؟

- لا، لا يمكن أن يكون ذلك أبداً.

جردوني من كل شيء، من جنتي، فكان شتاتي مع أبنائي، وكان شقائي بعد سعادتي.

قلت:

- أعلم، كانوا شديدي الافتراء.

قالت:

- ولكن سأعطيهم مودتي ومحبتي، وأقابل السيئة بالحسنة، والبغض والحسد  بالتسامح، ليس من شيمتي الحقد.

وبغصة ودمعها يجري قالت:

- آه، ما أقسى جراح الأحبة!

هل أتخلى عنهم؟

شيء مستحيل.

كنت أعلم ما كانت تعانيه معهم، قالت بصوت خفيض:

- كانت الغيرة تنهش قلوبهم.

بدهشة قالت:

- من أي شيء؟

- لأنك كنت المميزة بينهم بكل شيء.

انبرت رحمة قائلة:

- لا، لست أفضل منهم، وغير مقتنعة بما تقولين.

- كان أبواك يحبانك كثيراً، و...

- ألهذا دفعوا بي وبأسرتي إلى أمور لا أريد ذكرها، وجردونا من الجنة التي كنا نسكنها؟
ثم بغصة قالت:

- بدأت حياتي غريبة، وعشت أجمل أيام عمري غريبة، والآن...

- ستقولين لا أزال غريبة.

أردفت قائلة:

- بل هي أقسى أنواع الغربة.

ظلمات الاغتراب بعضها فوق بعض، غربة عن الأهل، ثم غربة عن الوطن، تشتت أبنائي في أرجاء الأرض.

تدحرجت دمعة على خد رحمة وهي تذكر الوطن، وقالت:

- ما ألذ وقع اسمه في النفس!

ألم أقل لك بدأت حياتي غريبة، وتنتهي في الغربة؟

قلت بهمة:

- لتتفرغي إلى أمور أخرى يرضى عنها الله سبحانه.

بابتسامة رضا، حمدت (رحمة) الله، وقالت:

- إنه قدري.

- بل أقدار الكثيرين المهجرين.

- فلنستسلم لما قدر الله بنفوس طيبة.

كانت عيناها تتابعان عرض الأخبار في التلفاز عن الوطن العزيز الغالي، ومناظر مدنه وقراه وأحيائه، بين الحين والآخر تصيح رحمة بهلفة:

- انظري هنا كنت وكنا وعشنا، ومن هناك تشردنا.

متى سنعود إلى حيث كنا، ويرضى الوطن عنا، ويلملم أبناءه، ويسقيهم من مائه وينابيعه، ويمتعهم بمناظره؟ متى نعود وفي قلوبنا المحبة والتسامح والتآلف؟

ناداني الأمل ملحاً:

- ستعودون، المستقبل مليء بالأمل.

صرخت (رحمة) من الفرحة:

- ويكون معي أبنائي المهجرون، ويلملمنا بيتنا الجميل؟

ما لبث أن أطل اليأس المرير في لحظة البهجة والأمل، ليهمس في سري:

خفضي أحلامك، ما تأملين صعب المنال.

قالت:

- أدري، قد تكون الأحلام ضرباً من الوهم، ولكن للأحلام لذة، إن حرمنا من الحقيقة فلا نحرم منها في عالم التصور والخيال.

دون أدنى تردد، صممت "رحمة" أن تجعل أحلامها حقيقة بإذن الله في عالم ما وراء هذه الدنيا عند رب غفور رحيم، كريم.

قلت:

- أليس ما تقولين فيه العذاب؟

- ما أعذبه من عذاب!

استدارت رحمة وهي تردد:

- طال المطال يا وطن.

آه... ما أقسى جرح الأوطان.