هدى
نعماء المجذوب
اقتربوا مني يا أحبابي
لملمت "وجدان" أطفالها بذراعيها، احتضنتهم بحنانها الدافق، الجسم يذوب ويوشك أن ينهار، والحب في صدرها يفور، ودموعها تجف.
بولهٍ حاورت نفسها:
- كيف يعيش أطفالي الخمسة بعد فراقي؟ أية امرأة يمكن أن تعوضهم عن حبي ورعايتي؟ هو قدري فلأستسلم لقدري.
الحمد لله، إيماني به ثابت قوي، لا يزعزعه مرض أو فراق.
نظر إليها أطفالها بخوف وهلع، صاحت "سارة" البنت الكبرى التي لم تتجاوز الثانية عشرة:
- ماما.. ما بك؟ أرجوك حدثينا عما تعانين لماذا تبقين هكذا في صمت دائم؟
قال أحمد الذي لم يتجاوز العاشرة:
- نشعر بأنك مريضة، وفي ضعف مستمر، ونراك تذهبين إلى الطبيب بين يوم وآخر، ماذا قال لك؟.. أرجوك أخبرينا.
حاولت "وجدان" الابتسام.. ولكن، كيف يبتسم ويضحك من ينذر بالموت القريب؟
- هل أخبر أطفالي بمرضي الميئوس منه؟ ماذا أقول لهم؟
هل أقول بأن الأطباء حددوا لي المدة التي سأعيشها.. شهر إلى أقصى حد؟
كيف يكون وقع الخبر على نفوسهم الغضة؟
مسحت دمعة تدحرجت على خدها، قد تكون الدمعة الأخيرة، فحياتها تجف شيئاً فشيئاً.
أمسك أحمد بتلابيب ثوبها، صرخ قائلاً:
- أرجوك يا ماما، أخبريني ما بك؟
ابتسم بتفاؤل قوي، وطنب قامته، وقال:
- أنا رجل يا أمي، ألا ترين ذلك، ألا تثقين بي؟
انظري إلى قامتي لقد طالت، وصوتي بدأ بالخشونة، و...
ضمته أمه إلى صدرها وبثقة قالت:
- أدري يا حبيبي أصبحت رجلاً بجسمك وخلقك.
ثم... سألت نفسها:
- بماذا أوصيه؟
نظرت إلى إخوته.. لا يزالون كالبراعم، سيلاقون المرارة من بعدها عنهم.. كيف يديرون شؤونهم، وأبوهم يكدح من أجلهم؟
لمن تسلمهم بعد الفراق الأبدي؟
تأوهت وهي تقول:
- أكيد ستكون حالتهم بعدي قاسية.
أرسلت نظراتها إلى السماء، وفي رجاء تضرعت قائلة:
- يا رب اهدني كيف أتصرف؟.. أيام ثم الفراق.
نور لاح في فضاء ذهنها، دعاها بقوة إلى اللحاق به.. انشرح صدرها له، ابتسمت وقالت:
- إنه الحل الأمثل..
شعرت بنشاط غير معهود.. جرت إلى غرفة نومها ألقت نظرة تتفحص محتوياتها:
الستائر مهملة، السرير غير مناسب، الأزهار على حواف النوافذ ذابلة.. كل شيء شاحب يوحي بالموت..
صرخت:
- لا، لا، هذا غير مناسب لأختي "هدى" إنها شابة متفتحة على الحياة كوردة ربيعية.
عضت على شفتيها، طقطقت أصابعها بعصبية بأسف قالت:
- ولكن هدى مخطوبة، آه كيف أتصرف؟
أنا هنا في الغربة في المدينة المنورة وأختي في الشام ولا أحد من أهلي يدري بي.
كانت (وجدان) تخشى على أبويها وأختها من إعلامهم بمرضها، تعلم مدى حبهم لها، وسيكون وقع الخبر مريعاً.
صرخت:
- لا، لا أستطيع أن أكتم الخبر عنهم أكثر من ذلك.
أسرعت لتدير قرص الهاتف بأصابعها المرتعشة، وبصوت متهدج أشبه بالاستغاثة قالت:
- أمي: لا تهلعي.. أنا بأشد الحاجة إليك وإلى هدى أرجوك ائتيا إلى المدينة خلال أيام.
من الجانب الآخر جاء صوت الأم مرتبكاً، وهي تقول:
- أعوذ بالله ماذا أصابك يا نور عيني، والله أرعبتني؟
- فقط تمالكي أعصابك أريدك أن تأتي مع حبيبتي، أختي هدى.
- ولماذا هدى بالذات؟ إنها تتهيأ للزواج بعد شهرين.
بتصميم أجابت وجدان:
- وأنا أريدها قبل الزواج، في هذه الأيام بالذات خلال أيام، أرجوك..
صمت الهاتف، انفرد التخطيط في ذهن وجدان همست في سرها بتفاؤل:
- كل شيء سيتغير بإذن الله، سأفارق أطفالي وزوجي وروحي باطمئنان، ستحل محلي هدى بحنانها ورعايتها، إنها تحبهم.. كثيراً ما كانت تلاعبهم، وتهتم بهم، وتبكي حين تودعهم.
بثقة قالت:
- ستضحي أختي بكل شيء من أجلي وأجلهم، وسيكونون بخير إن شاء الله.
وجدت نفسها في تفاؤل فضفاض لا حدود له، تساءلت:
- هل أنا أحلم؟ أم هل أتوهم؟
يارب أعني، أنقذني من الضياع.
لم لا يصبح الحلم حقيقة؟
لامست ظهرها بكفها..
- آه.. فقرات ظهري تخونني، توشك أن تنفصل عن جسدي.
آه.. إنه قدري إني أستسلم لقدري بإيمان، وبدون يأس من رحمته، ومغفرته، وجناته.. أحمدك يا الله على كل حال.
كان أطفالها يتابعون تصرفاتها بنظراتهم وهم في جزع، ويتمعنون بملامح وجهها.. كل شيء يعبر عن حزن وتفكير عميقين، ومن حين إلى آخر يمسكون بيدها، يقبلونها، يضمونها بقلق وحب.
ابتسمت لهم، سألتهم:
- لم الخوف يا أحبائي؟
ألا تحبون خالتكم هدى؟ ألا ترغبون في العيش معها؟ تذكروا رعايتها لكم وأنتم في زيارة لبيت جدكم في الشام.
بهمس قال أحمد:
- فهمت يا ماما قصدك، الآن فهمت.
جرت سارة إلى الغرفة المجاورة، طمرت وجهها بكفيها، كتمت نشيج صوتها
- آه، ماما ما بها؟
اشفها يا رب، اشفها
همُّ كثيف سيطر على أفراد الأسرة، لم يعرفوا طريق الخلاص منه.
انزوى كل منهم في ركن يحاور نفسه، لا يدرون ماذا يفعلون، ويحسون بالخطر المحدق بهم.
تجولت وجدان في أنحاء البيت وجدته مهملاً منذ زمن، الورود ذابلة في الأصص، تلامسها أشعة الشمس، غير مروية، الحشائش بين مربعات البلاط جافة.. كل شيء رأته يجف إلا مشاعرها في فوران وتدفق لا يهدآن.
ترددت هي في حيرة، هل تغير أشياء البيت قبل وصول أمها وأختها من الشام؟ ربما لا يعجب التغيير هدى، فقررت إبقاء كل شيء على حاله.
ثم كان اللقاء بين وجدان وأمها وهدى، فيه مزيج متشابك من الشوق والهلع، وارتقاب مصير سيفاجئهن بعد أيام.
كان وقع النبأ على نفس هدى كالصاعقة، فيه صراع بين حب يوشك أن يزهر بالزواج ممن تحب، وحب سيولد.
أيهما تختار؟
التضحية بذاتها وحبها البهيج وقد أعدت له عدته، أم زواج لا ترغب فيه؟
ضمتها وجدان إلى صدرها بحب منهمر، أمسكت برأسها وهمست في أذنها:
- حبيبتي أختي، لو كنت محلي، وأنا محلك ماذا تفعلين؟
صمتت هدى، حاورت نفسها:
- بالفعل، ماذا أفعل، كيف أتصرف؟
ألقت وجدان كلمات عذبة في أذن أختها:
- أحبك يا أختي، أنا وأنت نشأنا على الإيمان بالله، والمحبة والتعاون، أيهون عليك أن يكون أطفالي بأيد غريبة قاسية؟
بكت هدى على صدر أختها، قالت:
- ولكن..
- أدري أنك مخطوبة، وتحبين خطيبك..
- وزواجي...
- أيضاً أدري سيكون قريباً.
- ولا أتصور..
- أن تكوني مع رجل آخر
أردفت وجدان قائلة:
- تأكدي يا هدى بأن أبا أحمد سيسعدك بحبه وعطفه وتقديره لك، وسيوفر لك كل ما ترغبين منه.
ما رأيك يا أختي الحبيبة؟
صمتت هدى، أيقظ الإيمان وعيها،... نسلت خاتم الخطبة من إصبعها، وناولته لأمها.
بهتت الأم، وبدهشة سألتها:
- أهذا قرارك النهائي؟
بقناعة أجابت:
- أجل يا أمي، يجب أن أضحي هو قدري وأنا راضية بما قدر الله لي.
بدأت الأشياء في البيت تتبدل، غرفة نوم توحي بالبهجة والأمل، الستائر مزركشة، الورود في الأصص مروية، نهضت أعناقها تستقبل الساكنة الجديدة.
في صباح يوم قريب، أبت وردة صفراء رفع عنقها، كانت ملوية، وجهها تجاه التراب، تذرف أوراقها ورقة ورقة، ونعش بملاءة خضراء يحمل جسد (وجدان) إلى مقره الأخير.