أكره طفلتي
زهية شاهين
- أنا باكره بنتي وبضربها بعنف …لكن بعدها بندم
أخذت تبكي بحرقة ..ثم انتفضت تزيح دموعها بغضب : هل يعقل أن تكره أم طفلتها ؟!!!!!…تخيلي ..لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات.
تفحصتني تنتظر مني اجابه : نعم قد تكره أم طفلتها
ردت باستغراب : كيف ؟
- إذا كانت الأم تكره نفسها ..قد تكره ابنتها ؟
زادت حيرتها: كيف؟
وجهها الغاضب ويداها اللاتي لاتهدأ وكانها ستفقأ عيني المقابل لها وجسدها القلق وثيابها البسيطة والتي لاتعبر الا عن شخص في عجلة من امره لبس ثيابه سريعا ليلحق بقطار او بأناس لايودهم ولايهمه نظرتهم له ..لم اجد امراة ..أنثى في ملامحها بل نقلت لي مشاعر من التعب والغضب حاولت ان أهدأها كي أفهم فبادرتها :
- كيف أنت مع نفسك ؟
وبسرعة شديدة قذفتني بكلماتها دون تفكير بل وكأنها لاتحتاج لمن يسألها كي تجيب : أنا ست عصبية وغاضبة وغير سعيدة واسبب ألم لمن حولي …واكره نفسي وابصق على نفسي في المرآة بل واضرب نفسي دائما …تخيلي انه يوجد شخص يضرب نفسه ..هذا الشخص هو أنا .
تململت في مقعدي واتجهت بوجهي قريبا منها ..: وعقبت : نعم كثيرون يضربون أنفسهم ..إذا كان عندهم غضب تجاه أنفسهم ويشعرون ان ضربهم لانفسهم يخفف غضبهم واحتقارهم لذاتهم .
نظرت إلي بحذر وكأنها تريد أن تتفحص ردات فعلي بطريقة تشعرها بالأمان ..فابتسمت وأومأت إليها أن تكمل : كيف أحب نفسي…وتوقفت هنيهة : وابنتي ؟
اعتدلت في جلستي ونظرت إلى عينيها مباشرة وسألتها : هل لك أن تحدثيني عن طفولتك .
بدت على وجهها الدهشة : ما دخل طفولتي في كراهيتي لنفسي ولطفلتي ولغضبي . أجبتها :لا تنفصل سير حياتنا عن كل أجزائها والشخصية تصنع أساساتها هناك في الطفولة وهو مجرد حديث قد يفيدك وقد لا يفيدك …ولكن ثقي أنني هنا لمساعدتك لتحبي نفسك ولتجديها .
تململت ونظراتها معلقة بالحائط وكأنها تتجنب النظر إلي طفولتها ..كمن يريد أن يختبئ في نفسه ولاشيء يداريه سوى عينيه الحائرة والخائفة والقلقة من المواجهة ..كمن يريد أن يفقد بصره حتى يختفي الحرج من عقله وجسمه ومن نظرات الآخرين ..غاصت في داخلها ولم تلتفت لوجودي أمامها..وجدت الطفلة في عمر خمس سنوات تركض بفستانها الوردي في يوم عيد ,وفي يدها لعبه وحافظة نقود صغيرة بها نقود معدنية وقد رجعت لتوها من المراجيح , وقد طارت في السماء بفستانها الجميل وعانقت الريح الخفيفة كأنها فراشة لا تحدها حدود وتعشق كل الورود ونسيم الهواء وتلامس بخدها الألوان والجمال في عمق المخلوقات ..شعورها الحاد والرائع بان الأرجوحة قد نقلتها فوق سطح الأرض وعند شعور المتعة الغير مفهومة وكادت ترقص وتلتصق في الهواء ولكن صاحب الأرجوحة نزعها بيده الخشنة ونبهها أن دورها قد انتهى. نزلت ولم تشعر بقدميها تمشي بل كأنها تطير كالفراشة …وهي ممتلئة بسحر اللحظات , أيقظتها يده الخشنة وصوته : تعالي عندنا ..أمك ليست في البيت جاءت عندنا وأخبرتني أن أحضرك إليها .
انكمشت داخل فستانها وأصبح يجرها وهي حائرة ..كانت خطاها وتخيلاتها تقودها للبيت لتطلب من أمها أن تصنع لها أرجوحة بين أغصان الزيتون في الحديقة …لكن لا بأس عندما ترجع ستطلب منها ذلك , أصبحت خطاه سريعة وهي غير قادرة على اللحاق به , فكاد أن يمزق يدها التي يجرها منها ..وصل بها بيتهم , ثم فتح الباب وصعد بها السلم إلى الطابق العلوي ..أخذت تنظر في البيت لم تجد أحدا ولا يوجد أي صوت يؤنس وحشتها وشعورها بالاستغراب ..وبادرته : وين ماما ؟. رد باقتضاب : مفيش ماما ..تعالي بدى أعطيك حاجة حلوة أنا مخبيها إلك .
ابن خالتها الذي كان يلاطفها ويلاعبها… بحثت في وجهه عن أشياء كانت تسعدها ..فوجدت صورة وحش كانت تحكي لها جدتها عنه في قصة ليلى والذئب..لم تعرفه انه الغريب , أخذت تبكي وتكورت في زاوية الغرفة ودموعها تنهمر وأعضاء جسدها الصغيرة تلتصق بعضها ببعض, ووجدت رجليها قد التصقتا كأنهما لوح ثلج وأخذتها الرجفة ..اقترب منها بجسده الضخم وامسك بيديها ورجليها ودارت بها الدائرة وشعرت بغيبوبة ودوخة قد تملكتها وكأنها قد القي بها في قعر بئر ولم تعرف ما حدث , ومنذ تلك اللحظات لم تخرج من ذلك البئر …وجدت نفسها منهكة وشعرها مبعثر وبين رجليها الم , وفستانها الجميل لم يعد جميلا والسماء لم تعد سماءً والهواء والريح الخفيفة لم تداعب خديها ولفها الانكسار والحزن والخوف والألم , فتح لها الباب وانطلقت كعصفور مذبوح تجر جسدها الطفو لي الذي فقد خفته في فضاء الأرجوحة ليصبح ثقيلا بثقل وجعها, أصبحت الطريق إلى بيتها موحشة ووجه أمها يخيفها , ذهلت أمها من مظهرها وكانت تود أن ترتمي في أحضانها وتلقي في حجرها موتها وفزعها , ولكنها وجدت كف يدها الثقيل قد مزق وجع وتعب وجهها إلى أوجاع لم تعد قادرة على تحسسها وصوتها لم يعد حنونا كما عهدته : لقد وسختي ملابسك أنت مهملة لقد حذرتك من أن لا تحافظي عليها جديدة لتلبسيها في العيد القادم .
منذ تلك الصفعة دخلت للبئر مرة أخرى ولم تخرج منه وأصبحت تكره العيد منذ ذلك اليوم ولم تلبس فستانا والتصقت فخذاها حتى جاءها مرة أخرى بعدما كبرت تلك الصبية وجاء وقد لبس بدله كالرجال , وخالتها جاءت تطلب يدها له ..صعقت رفضت وصرخت وهددت بالانتحار ولم يسمعها احد بل لم يرها احد ..وجدت نفسها في ليلة زفاف بيضاء وزغاريد وأمها قد لبست أجمل ما عندها ولأول مرة تجد امها قد تزينت وهي فرحة ترقص هي وخالتها وكل العائلة وأخواتها وإخوتها, وهي ليست هي ..حتى حلمها بان تبقى هى والمجهول وحيدة تألف عزلتها وفخداها ملتصقتان وذاكرتها تتسلق حيطان البئر الى صحراء اخرى لم يصبح حلما انتهت الحفلة ومنذ ذلك اليوم وهي تتعرض للاغتصاب نفسه وتغيب عن الوعي وتصحو لتجد ذلك الوحش ينام بجانبها وكل ليلة يأتيها حلم بقتله وقطع أعضائه ومرات عديدة تصحو بعد أن تقطعها ولكنها تجده نائماً بجانبها وحشا مفترسا وهي تلك الطفلة التي سقطت في قعر البئر مذعورة ومشوشة .
فجأة وجدت معالم وجهها قد تغيرت وكأنها تنفض عن نفسها كوم من القش والغبار: …هذه هي طفولتي سيدتي ..ما رأيك ؟..هل يحق لي أن اكره نفسي وابنتي أم لا؟
- لماذا تكرهين نفسك؟
- لأني لا أستحق سوى الموت ..لماذا حدث لي كل ذلك ..لماذا لم أقاوم واصرخ ..وأنا صغيرة قد يكون لدي عذر ولكن كيف اسمح له أن يغتصبني كل ذلك الزمن ؟..أنا استحق الموت ..وابنتي يجب أن تموت كي لا تتعرض لذلك ..هي لا تستحق أب مغتصب أخشى عليها أن يغتصبها ..كل صباح أتحسسها وأتحسس أعضائها, كل ليلة أموت ..غير قادرة على النوم ولا الحياة ..أنا جثة هامدة مازلت في قعر البئر.
ربت على كتفها وطلبت منها أن تهدا وأعطيتها مناديل ورقية كي تمسح دموعها وكاس ماء بارد قد يطفئ نارا تشتعل في يديها التي رسمت في الهواء رغباتها في إعلان الموت على أبواب موصدة لا تفتح . حاولت أن أوقف غضبها وان أثبت نظراتي على وجهها وفي عمق عينيها التي لاحظت أنها لا تنظر للآخرين بل هي عيون مشوشة وحائرة دائما وتتجنب السقوط على وجه بشري ..أربكتها نظراتي ..وطلبت منها أن تنظر إلي : ليس لك ذنب فيما حصل وأنت صغيرة وحتى وأنت كبيرة ..ألم تحتجي وترفضي وواجهتي اهلك بذلك .
ردت : نعم ولكن ذلك لم ينقذني ..كان يجب أن يكون مني تصرف آخر.
- مثل ماذا ؟
-..أن انتحر.
- من كان يجب أن ينتحر لست أنت بل من يعتدي على الآخرين ..أنت لم تعتد على أحد .
- لكني أمنت له وذهبت معه لبيتهم.
- ولكنه هو من خان ولست أنت …انت طفلة لاذنب لك , على الكبار ان يحافظوا عليك لا ان ينتهكو حرمة حياتك وجسدك الطفولي ..
- ردت: ولاذنب لابنتي ولالجسدها الذي قد يغري الوحش.
- جسد الطفل لا يغري ياابنتي .. المشكلة عند الوحش.
- إذا أنا اكره نفسي لا طفلتي.
- نعم هو الشعور بالذنب الذي يبقي لدى الضحية التي تكره عجزها ..والطفل هو في الأساس عاجز أمام أي وحش لأنه وحش .
تنهدت ثم أخذت تبكي : ولكن كيف أحافظ عل ابنتي ؟
- عندما تنزعين عجزك وتخرجين من قعر البئر سوف تستطيعين حماية طفلتك ,وان تحبيها بعد أن تحبي نفسك.
نهضت من مقعدها وشعرت أن جسدها المقوس قد اعتدل وفي وجهها إصرار على المتابعة وضعت يدي في يدها فبادرتني : سوف أحب نفسي وطفلتي ..سأتابع معك .
خرجت وأنا أتابع خطواتها وظلال جسدها على بلاط الممر ثم أدرت ظهري لأنزع عن عقلي ونفسي وجعا يشبه أوجاعا كثيرة تخبئها الوجوه وخيالات أطفال بريئة.