يَا صَاحِبَيِّ السِّجْنِ

السعيد ابراهيم الفقي

السعيد ابراهيم الفقي

==1==

تقدم !

قف !

تغيرت إشارة المرور فجأة من اللون الأخضر إلى اللون الأحمر,

مالت أجساد المارة إلى الأمام دون تحرك الأقدام , ثم تراجعت في حركة مهتزة تئن بالتعب والإجهاد والألم ...

ثبات عسكري ... 

همهمات غير مفهومة...

كل العيون ترصد بانتباه كشّاف الضوء الأخضر المنطفيء, متجاهلة الضوء الأحمر المنبعث من الإشارة الضوئية , لكن الأمر نافذ في عقولهم, فثبتت الأقدام . والموقف مسيطر على قلوبهم فاهتزت ترقبا و رهبة

تقلبت العيون يمنة ويسرى متسائلة دون صوت يُسْمَع:

لماذا الضوء الأحمر ؟ ! ...

فالطريق خالٍ من السيارات ...

كنا قد عبرنا النهر, امتطينا ظهر "المعدية", وهطل المطر كأفواه القرب, فغسَلَنا, وقبلنا فعله برضى وسعادة, حتى كدنا نسمع قلوبنا تزغرد.

على الشاطيء الآخر كان موقف مشهود, فقدنا المعدية فترة طويلة

حطمت أكثرنا الأنواء وهزت أعوادنا هزا تنخلع له القلوب وتزوغ الأبصار, فتطوع بعض الشباب وغامروا سابحين عبر النهر رغم العواصف والمطر الغزير والعوائق الاصطناعية وأحضروا المعدية بمجهود منقطع النظير, وكاد الجمع يهلل ويصفق ويكبر لكن رهبة الموقف أنستنا الانطباعات البشرية الصغيرة فساد الصمت المترقب.

===2===

أحاطني حلمي قليلا, فاسترجعت حالة العبور العبقرية , فاستعمرت قلبي البشرى.

أفقت على فكرة غريبة, وهي أن الشرطي القابع في البرج كعادته 

نائم أو تحت تأثير نعاس فهو بشر يتعب أو حتى ينسى أحيانا, فحركني دافع قوي بوعي جديد تجاه البرج الذي يقبع فيه الشرطي... صعدت السلم المؤدي إليه بهدوء وخاطبته بأدب:

" لماذا الضوء الأحمر والطريق خال من السيارات؟

رد الشرطي بهستيرية :

" ارجع ... لاتتقدم

رأيت الخوف في عينيه, فشملت كياني نشوةُ انتصار عجيبة.

فجاء ردي ثابتا وبتلقائية:

" أرفض!" 

أهملني الشرطي واستدار الى جهاز الهاتف اللاسلكي.

و كل جسده كان يرتعد وينتفض وشفتاه تتحركان بكلمات سريعة لم افهم منها شيئا الا:

" البرج في خطر!" 

كأنه فوجيء بأسد هصور قد صعد إليه في برجه , فحاولت أن أهديء من روعه, لكنه كان مشغولا في نداءاته متفحصا الطريق,

كأنه يترقب النجدة.

===3===

كانت اللحظات تمر ثقيلة ثقيلة 

وبينما كان الشرطي يترقب النجدة كنت أراقب الجمع,

كنت أتلمس المساندة والعون , لكن , ومع وجود حركة مبهمة داخل الجمع لم يحدث شيء مرئي.

وفجأة سمعت صوت نفير كنفير الحرب فاستبشرت قليلا.. ثم تملكني شيء من الترقب, فإذا بأصوات دراجات نارية وأبواق سيارات تأكل الطريق بنهم , لم أستطع تحديد عددها ولا نوعها.

صعد شرطيان من راكبي الدرجات إلى سلم البرج واحتضناني إلى أسفله , ثم إلى ... 

لا أعرف إن كانت سيارة أو جدران معتمة صماء.

لم أر فعل الجمع ولم استشعره ولم يقع في خاطري أن أعرف شيئا عن أي شيء, لأني كنت مشغولا بفكرة ايقاظ الشرطي فيحدث ماحدث.

وإن لم يكن نائما - فالذنب أقبح – فمتكاسلا عن عمله! ... إذا أنا لم أخطئ , آه , لكن.....

===4===

أشعر بالقيد وبالقهر...

مر وقت لا أستطيع تقديره لأني أفتقد الشعور بالزمان وبالمكان...

توقفت السيارة... سمعت أبوابا تفتح وتغلق.. فُتح الباب الخلفي للسيارة الذي أقبع خلفه, زاد همي واهتمامي.

صرخ الشرطي وغضب الدنيا يتجمع في وجهه :

" قف!.. تقدم! .. انزل! "

وقفت وقوفا طبيعيا, ومع شعوري بالقهر فليس عندي أدنى شعور بالذنب الذي يحبط قواي, ولهذا أشعر أن قواي العقلية والروحية والجسدية طبيعية.

بثبات نزلت الدرجات الحديدية واحدة واحدة, استنشقت الهواء الذي ملأ صدري, فانتعشت.. نظرت حولي .. المكان يكاد يكون خاليا إلا من بناية عالية الأسوار.

تكوّن أمامي وخلفي تشكيل عجيب من أفراد الشرطة .. أمامي شرطي وخلفي شرطي وعن يميني شرطي وعن يساري شرطي ويتقدم التشكيل شرطي منضبط الحركة والصوت, فهمت أنه قائد التشكيل وآمره .

حدث في داخلي شيء غريب جدا, وشعرت كأنني شخصية مهمة للغاية VIP , ازددت صلابة وقوة وشجاعة فوقفت في منتهى الثبات.

باب البناية ينفتح آليا وببطء.

صرخ قائد التشكيل:

"تقدم!"

تحرك التشكيل ....

انتابني شعور قوي وتملكني نحو أفراد التشكيل المسلح الذي يحوطني, وتمنيت معرفة شعورهم نحوي, لكن دون جدوى, فوجوههم مجلدة.

===5===

فجأة, يصرخ قائد التشكيل:

" توقف! "

توقفت بحذر, فإذا بلوحة صغيرة مكتوب عليها:

" مكتب الاستقبال "

ارتفعت الرشاشات الأربعة وانخفضت على مرات متقطعة فصنعت صوتا منتظما زودني بنوع من الحماس, فقد ذكرني بطابور الخدمة العسكرية ... 

قائد التشكيل يصرخ بأوامر لاأفهمها, فيقترب الجنود مني ويبتعدون, تتسع الحلقة حولي وتضيق وتتسع ,وأخيرا تنفتح حلقة التشكيل عندما تحرك الأفراد الأربعة حاملي الرشاشات بثبات وهمة إلى الخلف لأصبح في المقدمة.

وبعنف يصرخ قائد التشكيل:

"تقدم! .. ادخل!"

دخلت مكتب الاستقبال.

أمام ضابط الاستقبال وقفت أنظر في الصورة التي تعلو رأسه وأتأمل الجدران الباهته.

بينما كنت انتظر أن يسألني عن اسمي وسني ومهنتي وعشيرتي,

زمجر صوت الضابط فجأة:

" صعدت إلى برج الشرطي حاملا رشاشا محاولا اغتياله "

نظرت خلفي لااراديا , لعله يخاطب أحد الأفراد الأربعة في التشكيل المسلح, لكن أحدهم نبهني بفوهة رشاشه أن التهمة موجهة لشخصي, لم أكن أتوهم أن توجه لي مثل هذه التهمة, فتوجست خيفة, ولم أنطق, فانفجر الضابط مرة ثانية مزمجرا:

" حاولت اغتيال الشرطي أثناء قيامه بعمله الرسمي! "

سرت في جسدي برودة شديدة كالتي تنتابني أثناء الحمى.

ولساني جامد لايتحرك من هول المفاجأة.

وعواء الضابط يخترق سمعي إلى قلبي:

" تكلم يا ....................................."

لم استطع تحريك لساني.. لكن الشرر تطاير من عينيه وعصف لسانه:

" حاولت تحريض الجمع للتظاهر وقلب البرج واغتيال الشرطي! "

دارت الأرض وشعرت أن الغرفة يتبادل سقفها وأرضيتها المواقع, حتى الحيطان الأربعة حدث لها ماحدث للسقف والأرضية وانعقد لساني.

تحركت كعوب الرشاشات إلى مكونات جسدي كلها بسرعة وانتظام ...........

===6===

أفقت من اغمائي وفي أذني صوتي وصداه, كمليون صوت, خيل إليّ أنني أفقت من كابوس طويل وأنني في بيتي بين أولادي وزوجتي, لكني فتحت عيني, فإذا بغرفة أخرى نفس مساحة غرفة ضابط الاستقبال .. سرير بدون ملاءات ولا غطاء .. حائط ملطخ بأشياء وألوان كثيرة لاأميز فيها إلا بقع الدم الأسود المشوب بالحمرة, شباك لاأميز كل تفاصيله, أشياء أخرى لم أستطع تأملها جيدا فقد بدأت أشعر بالألم في أطرافي ثم في جذعي ثم في رأسي ثم في قلبي .... حاولت الوقوف .. تراجعت .. حاولت السكون .. لم أستطع .. حاولت أن أغمض عيني.. دون جدوى .. يقظة , كيقظة الامتحان.

استرجعت أكثر المواقف صعوبة في حياتي حتى أخفف عن نفسي, في هذه اللحظات لم أفكر في مخرج, فقد استحكمت في رأسي فكرة ملكت كل ملكاتي واستحوذت على شعوري وهي أن اتسمع لنداء قادم من قلبي, أكاد أسمعه, يقترب رويدا رويدا, يملأ سمعي, يستحوذ عليه, صوت مؤذن مسجدنا يرفع آذان الفجر, استقرت فرائسي, وشعرت ببرد وسلام ينتشر في أوصالي.

مر وقت طويل طويل , ليس كأي وقت مضى في حياتي حلوا كان أو مرا ... ساعات؟ ... يوم؟ ..أكثر؟... لاأعرف .. فلانور خارجي أستشعره.

===7===

دقات متوالية عنيفة على الباب تقوى بالتوالي...

ثم صوت يأتي الى سمعي , مليء باللعن والسباب.. 

ثم الطرق مرة أخرى يكاد يحطم الباب..

ثم صرخة عالية كالعواء:

"اخرج!"

ابتسمت ابتسامة آلمت سحجات وجهي المتورم .. ومازال لساني معقودا.. .. فقد ترك الأمر كله للشريط السينمائي الذي يدور في روعي كعرض مستمر.. فجأة ارتطم الباب بالحائط .. بعدها دخل الشرطي المسلح مصوبا رشاشه الى رأسي.

" تحرك ..اخرج!"

حاولت الحركة, وقفت, وقفت قريبا من الركوع, حاولت الاعتدال, لم تسعفني أوصالي, سرت مدفوعا بفوهة الرشاش في طرقات طويلة داخل المبنى والتشكيل المسلح يحرسني.

وصلنا إلى قاعة مفتوحة.. انتصبت لا إراديا لهول مارأيت .. مايقرب من خمسمائة شرطي بالرشاشات التي ارتفعت على دفعات

وانخفضت على نفس الدفعات بنفس الإيقاع .. امتد بصري الى نهاية القاعة .. في الصدر منصة تشبه منصة المحكمة وعليها عدد من الشرطة على رؤوسهم قلنسوات وعلى أكتافهم نجوم ونياشين... وأوسطهم واحد مميز قد يكون القاضي إن كانت هذه محكمة.

===8===

أوقفوني في القفص.

نادى مناد:

" محكماااااا......." 

اعترتني رعشة فوق العادة, ليست رعشة خوف ولارعشة رهبة ولارعشة برد ولارعشة متعة.. رعشة عبقرية .. شعرت معها ببشرى عظيمة .. وقف الحضور .. تحركت الرشاشات الى أعلى ثم إلى أسفل على دفعات متوالية .. جاء بخاطري أن أطلب محاميا.. لكن لساني تحول إلى قطعة لحم متجمد في فمي .. نادى المنادِ مرة أخرى:

" محكماااااا......." 

وقف الشرطي المميز في وسط المنصة كأسد هصور رافعا عريضة فوق ملف ضخم صائحا:

" حاولت اغتيال الشرطي برشاش!

حاولت تعطيل حركة المرور والسير!

حاولت تحريض الجمع للإطاحة بالبرج!

حاولت......................................!

حاولت......................................!

حاولت......................................!

حاولت......................................!

حاولت أن أسمع للنهاية حتى أستطيع الدفاع عن نفسي .. لكن صار للصوت مليون صدى, ولم أستطع تمييز أي معنى.. 

فطغى الصوت القادم من قلبي وغشتني السكينة .. ثم أفقت على صوت القاضي:

" تكلم! هل عندك أقوال أخرى؟ "

كنت أريد أن أتكلم .. كنت أريد أن أقول أنني لم أقل شيئا حتى يتبقى لي الأقوال الأخرى.. وجاء بخاطري أن أطلب محاميا.. ولأني صرت بلا لسان.. حاولت الحركة.. منعني القيد.. جاءت مني التفاته عفوية نحو منتصف المنصة .. ويالهول مارأيت .. شرطي البرج هو نفسه القاضي القابع في منتصف المنصة .

من هول المشهد تحرك لساني:

" قل لهم أني كنت أوقظك.. استحلفك بالله.. قل لهم أني كنت أوقظك..

صخبت القاعة بالضحك الهستيري.. فأمسك شرطي البرج القابع في وسط المنصة شاكوشا وضرب بعنف وجه المنصة .. وسمعت صوت :

" انتبااااه !"

ساد الصمت القاعة .. بعدها تلفت الشرطي يمنة ويسرة وهمهم في أذني رفيقيه اليمين واليسار ثم صاح:

" حكمت المحكمة ..................... بالرصاص."

لم أسقط في القفص .. لكن الدم الحار سرى في عروقي بشدة وعنف ونسيت كل الآلام التي كنت أشعر بها.

===9===

جاء اليوم قبل الأخير في حياتي كما حدده القاضي وحيث الفجر موعدي مع النهاية بعد ثلاثين سنة في السجن وبدون قضية.

بعد ثلاثين سنة عزلة عن العالم 

بعد ثلاثين سنة توقف 

بعد ثلاثين سنة تعطل

..........................

كنت أريد أن اكتب مذكراتي حتى أتلهى بها عن مشهد النهاية الذي يحوطني كل الوقت لكن لاورق ولا قلم..

وعند دخول الليل, سمعت نفيرا يدوي في أنحاء المبنى .. خيل إلي أن هذا نفير الجمع الذي ستحدث أمامه النهاية.. وقد قدموا موعدها .. هربت كل الأفكار التي كات تراودني.. وصرت في حالة سلام لم أعهده... كل الماضي حلوه ومره, جماله وقبحه , الأحباب والأعداء .. يتساوون.. سلام مابعده سلام.. 

فقد أوشكت كل الأمور الصغيرة والكبيرة في هذه الحياة أن تزول بسماع هذا النفير..

لكني تنبهت لأصوات قريبة :

- " مات الزعيم؟ "

- " لا ! "

- " غادر البلاد؟ "

- " لا ! "

- " قتل؟ "

- " لا ! "

- " انتحر ؟ "

- " لا ! "

- " تنازل عن العرش؟ "

- " لا ! "

- " انقلاب؟ "

- " لا ! "

- " ماذا حدث؟ "

- " ثورة "

- " انقلاب؟ "

- " لا ! "

- " ثورة دموية؟ "

- " لا ! "

- " ثورة ياسمين؟ "

- " لا ! "

- " ثورة صبار ! "

- " لا ! "

- " أي ثورة؟ "

- " ثورة حضارية "

- " كيف؟ "

- " سلمية ! "

- " سلمية؟! "

- " نعم . "

- " كيف؟ "

- " نزول الشعب كل الشعب إلى الساحات "

- " فقط؟ "

- " لا "

- " إذن كيف؟ "

- " النزول إلى الشارع ورفع الشعار الحضاري "

- " الشعار الحضاري؟ "

- " ماهو الشعار الحضاري ؟ "

- " ارحل ! "

أدركت فورا عمن يتحدثون وأخذتني اغفاءة غريبة ... رأيت كما يرى النائم صحراء ممتدة رملها أصفر كالذهب أو أحمر كالياقوت.. ورحت أركض بقوة قِطٍ بري في كامل لياقته مستشعرا أني سأقبض كفا من رحمة.

مر وقت .. انتبهت بعده على صوت نعال المارة من شرطة الحراسة في الممر الضيق الذي يفصل الأبواب عن بعضها.. 

يمرون, يتهامسون بكل الأخبار.. كل الأخبار ..

( انتفض صَاحِبــا السِّجْنِ في صوت واحد على دفعات متقطعة:

" هل رحل الطاغوت ؟ "

ولم أجب لكن الاجابة كانت من الممر:

" رحل الطاغوت "

" رحل الشرطي العميل

" رحل شرطي الاستدمار "

" رحل الرئيس المتهم "

فعرفت أن صباح النهاية قد تنفس.

وأشرقت شمس الحق بعد طول غياب .. )