ميرفت

رؤى صبري

[email protected]

بدأ رأسي يدق بنغمته المعتادة التي لا تكف عن مطالبتها  بالنيكوتين,(عادة سيئة اكتسبتها منذ زمن)  ولم أستطع التخلي عنها حتى مع صدور القانون الذي يمنع التدخين  في المستشفى (مكان عملي)  ، تلفت  حولي لأرى ما إذا كانت المديرة ستراني لأنه لم يعد يشغلها سوى حساب عدد المرات التى أخرج فيها للمزاج كما تصفه هي ,نظرت لزميلتي وأشرت لها برأسي في إشارة تعرف مغزاها جيداً,حملت علبة السجائر ، ومشيت بخطوات سريعة نحو الحديقة الخلفية ، التي يهرب لها جميع المدخنين من أمثالي ، الذين لم يهتموا للعقوبات المزعومة,نظرت لساعتي بقلق وأنا أحاول أن أوازن الوقت بين الذهاب والإياب ، وفترة التدخين ، حتى تكون حجة الذهاب للحمام ممكنة,رحت ألعن القانون الذي يمنع التدخين في المستشفى فمن يقر قانوناً كهذا في ظل وجود إحصائيات تشير إلى أن 48 في المائة من العاملين في القطاع الصحي مدخنين وأغلبهم من الأطباء,هذا إذا غضينا الطرف عن المرضى المدخنين والذين لا يكفون عنه لمجرد كونهم وأيضا لا ننسى الإداريين العاملين في المستشفى,نفضت كل تلك الأفكار من رأسي إذ رحت اتخذت موضعي المعتاد لأعدل المزاج مددت يدي وأخرجت سيجارة ودسستها في فمي بسرعة ثم رحت أبحث عن  القداحة في جيبي العلوي  كما اعتدت أن أضعها دوما ، بحثت فلم أجدها واصلت البحث جاهدة في جيوبي الأخرى ولكن بلا جدوى، فلا بد أني نسيتها مع العجلة,ضربت بقدمي الأرض من شدة الغضب خاصة أني لن أستطيع العودة والخروج مرة أخرى,رحت أنظر يمنة ويسرة لأرى ما إذا كان هناك أحد سواي في الحديقة ، إلى أن وجددتها امرأة قمحية البشرة ذات شفاه حادة وعينان صغيرتان لكنها عوضت ذلك بجمال لونهما العسلي, يزينهما حاجبان "منموصان " بعناية أما أنفها فكان آخر ما ألحظه بسبب فقدانه للاستقامة وبرغم ذلك لم تكن آسيوية كان مظهرها العام خالياً من الأناقة إذ كانت تغطي رأسها بحجاب أخضر فاقع اللون أما عباءتها فكانت ملطخة بشيء من الأوساخ هذا بالإضافة إلى قدميها المتسختين والظاهرتين من نعلها رخيص الثمن ,هنا استوعبت أني أطلت النظر فيها فسألتها بارتباك:

عفوا ولكن هل يمكنني أن أستعير القداحة؟

نظرت لي بحدة لا تخلو من سذاجة وناولتني إياها,أشعلت سيجارتي وأعدتها لها شاكرة إياها بابتسامة لم تبخل عليّ بمثلها.رحت أسحب أنفاس سريعة من السيجارة تؤدة للعودة ، ألقيتها جانبا وبشيء من الفضول وجهت لها نظرة سريعة قبل أن أغادر الحديقة,ومنذ ذلك الوقت أصبحت أراها بصورة متكررة وأصبح وجهها مألوفا وكثيرا ما كنا نتبادل الابتسامات وذات يوم لوحت لي أن أنضم لها ولم أمانع لأنني كنت املك متسعاً من الوقت,جئت وفسحت لي مكانا بجانبها جلست وبادرتها بالسؤال :

الجو جميل اليوم أليس كذلك؟

ردت:

نعم إنه كذلك.

عدت أقول محاولة أن أخلق حديث:

كثيرا ما أراك هنا.

أجابت بإبتسامة باهتة:

أمي منومة في المستشفى نظراً لإصابتها  بورم خبيث في الرحم.

أطلقت آهة ألم ولم أعلق ورحت أحاول تغير الموضوع لكنها كانت تملك روح عالية إذ راحت تسألني عن طبيعة عملي وأوقاتي وغيرها كان حديثها حلو المذاق كما كانت خفيفة الظل فعلا دخلت قلبي سريعا وغيرت انطباعي الأول عنها من كونها امرأة خبيثة النوايا فلقد وجدتها ساذجة إلى حد كبير تبادلنا أرقام الهواتف النقالة ووعدتها بأني سألقاها كلما حانت لي الفرصة,وفي الأيام التالية زادت لقاءاتنا مما جعلني اعرفها أكثر ، وذات يوم راحت تريني صور أولادها وبينما هي تفعل ذلك ذكرت أنها تزوجت عدة مرات ، وهنا بدأ الاستغراب على وجهي لكنها لم تشأ أن يستمر ذلك كما يبدو من خلال مبادرتها إلى سرد الحكاية كاملة بقولها :

منذ أن ولدت وأمي تكرهني لأنني كنت ثالث أنثى ترزق بها على التوالي بينما كانت تتشوق هي لمولود ذكر ومما زاد الأمر سوءاً ، إصابتي بالربو في صغري مما جعل مني عبئا عليها طيلة الوقت ،وبعدي رزقت بالذكر الذي حاز على كل اهتمامها فكانت دائما ما تهملني وتضربني بقسوة لم تعامل بها أخوتي ومرت أيام حياتي متباينة بين الفرح والحزن مما تفعله أمي بي خاصة أنها كانت تلح علي كي أتزوج حتى تتخلص مني ، وكان  لها ما أرادت فما أن بلغت الثامنة عشر حتى تزوجت برجل لم أكن أحبه خاصة مما كنت أرى منه أيام الخطوبة من تسلط وعنف جسدي ولفظي برغم من أننا نتبادل الحب أنا وابن عمتي منذ أن كنا مراهقين ومع ذلك تم الزواج وعشت معه ثمانية سنوات أنجبت فيها ثلاثة أولاد رأيت فيها أهوالاً منه ومن عائلته التي لم ترحمني فتلون جسدي بأنواع الضرب وعرفت الحبس بأشكاله وصوره وكانت محاولاتي للطلاق دائما ما تبوء بالفشل لأن أمي لا تقبل بلقب مطلقة في الأسرة ، إلى أن جاء اليوم الذي ضربني فيه بقسوة وحشية أدت إلى تنومي في المستشفى  مما وصل بالأمر للشرطة فرفعت عليه دعوى قضائية طلبت فيها الطلاق في سبيل التنازل عنها ، وبعدها حصلت على حريتي وعدت لمنزل أهلي دون أولادي وحرصت على إتمام ما تبقى لي من دراستي الجامعية ورحت أحاول لم شتات نفسي بقدر ما استطعت ، وبعد انقضاء أشهر العدة عاد ابن عمتي ليظهر في حياتي خاصة انه لم ينجح في حياته الزوجية أيضا ، إذ طلق زوجته قبل طلاقي بسنة ,وبعدها بدأ الكل يضغط علي لأقبل به بينما كنت أصر على الرفض إذ كنت أشعر بشعور غير مطمئن نحو تلك الزيجة لكنهم لم يتركوا لي مجالا للاختيار فما فعلته أمي في الزيجة السابقة فعله أبي معي الآن حرمني من المصروف كما حبسني في غرفتي ومنعني من الذهاب للجامعة كما هددنني بأنه سيحرمني من زيارة أولادي إذا لم أوافق وعندما سألته لماذا لم يوافق من قبل أجابني بأنه لم يكن مستعداً وقتها ليتحمل مسئوليات زواج خاصة أنه كان صغيراً في السن وبعد كل الضغوطات التى واجهتها اضطررت للموافقة ، دون أن أكون راضية فعليا فقط لكي أتقي شر المشاكل, توقفت قليلاً عن السرد وأشعلت سيجارة أخرى وقالت : بداية عشت مع ابن عمتي أجمل أيام حياتي حتى ظننت أن الحياة عادت لتبتسم لي مرة أخرى لكن للأسف لم يكن هذا ما حدث فبعد شهر بالضبط بدأ طليقي يخرب حياتي,فكان يذهب للشرطة ويوجه اتهامات أن زوجي يتحرش بأبنائي عندما يأتون لزيارتي كما كان يشكك زوجي في أخلاقي ويقول له بأني أسمح له بأن يزورني عندما يذهب للعمل ويؤكد كلامه بذكر شكل وديكورات وألوان منزلي والتي كان يحصل عليها من أبنائي,استمرت بعدها المشاكل دون توقف كما تواصلت  الإدعاءات من طليقي وزيارات الشرطة المتكررة بعدها بستة أشهر لم يتحمل زوجي كل هذه المعاناة وقررنا نحن الإثنان أن يتم الإنفصال في هدوء لأن الحياة لم تعد محتملة من قبلنا ,وعدت مرة ثانية لمنزل أهلي وفي أحشائي طفلاً .

وهنا أطرقت برأسها أرضاً  وسحبت نفسا من سيجارتها ونفثته سريعا ظننت أن الحكاية قد انتهت

لكني سألتها سؤالاً عارضاً :

إذن الصورة  التي رأيتها معك هي لأبنتك من طليقك الثاني ؟

هزت رأسها بالنفي قائلة  :

بل هي ابنتي من زوجي الثالث.

ضحكت بسخرية وقلت:

لا بد أنك تمزحين.

لكنها لم تكن كذلك وواصلت سردها بالقول:

بعدها مكثت في المنزل لمدة أربع سنوات أنهيت فيها دراستي الجامعية وتفرغت لتربية ابنتي وحصل في تلك الفترة  أن تقدم لخطبتي عدد من الرجال لكني كنت دائما ما أرفض خاصة بعد كل ما حصل ، لم يرغمني أحد على الزواج هذه المرة ، إلى أن جاء اليوم الذي تقدم فيه لخطبتي رجل في أواخر الأربعينات يعمل كعقيد في الشرطة متزوج وله عدد من الأبناء في سني وأصغر ، أقنعتني أختي بأن أعطي نفسي فرصة في التفكير حتى لا تتكرر المآسي ، وهكذا فعلت وبدأت أتحدث معه وأرتحت له كثيراً خاصة أني كنت أرى فيه حنان الأب المفقود,لم يكن يبخل عليّ بشيْ ، حتى أنه كان يجلب لي سجائري بالرغم من أنه لم يكن مدخنا وتزوجته برغم سخط زوجته الأولى وأولاده ، وعشنا مع بعض أجمل الأيام وكان كل همه إسعادي بشتى الصور فكان يهتم بكل ما أحتاجه ، وما أرغب فيه حتى أنه حرص على إنقاص وزنه لكي يصبح أكثر شبابا كما كان يحرص على صبغ الشعيرات البيضاء حتى لا أشعر بفارق العمر ومرت أيامي هنيئة وزادت  سعادتنا حين رزقنا بطفلة جملية تلك التى رأيتي صورتها وراحت تكبر أمام أعيننا فزينت حياتنا أكثر وأكثر عشت في عشي الدافئ هذا لثلاث سنوات انتقلنا فيها لفيلا من دورين ضمتنا أنا وزوجته الأولى أثثتها كما حلمت دوما لكن كيف يمكن للسعادة أن تدوم ففجأة ودون أي إنذار تلقينا خبر أن زوجي في غرفة الطوارئ حيث كان يعاني قصوراً حاداً في وظائف الكبد ، وعرفت أن حالته حرجة وما أن وصلت المستشفى حتى عرفت أنه فارق الحياة، رحت أصرخ كالمجنونة إلى أن فقدت الوعي وخضعت على اثر ذلك للتنويم في المستشفى  ، جمعت بعدها قواي حتى اجلس في العزاء ، بكيته كما لم تبكي عاشقة فقدت معشوقها من قبل ،لأنه كان كذلك وبالرغم من كل ما مريت به في حياتي لم يوازي حزني  لفقدانه لأنه الرجل الوحيد الذي استحقني ولم يعذبني بل جعلني أعيش أجمل أيام حياتي ،إلى أن جاء القدر فغادرني إلى العالم الآخر دون أي إنذار سابق,حينها شعرت أن الحياة قست عليّ أكثر من اللازم وبأن العيشة لا تطاق، تمنيت أن ألحق به لأعيش معه في سعادتنا الأبدية,كانت الحسرة رفيقتي الوحيدة في تلك الفترة وحتى ابنتي الصغيرة لم أعد أدري عنها احتجت لوقت طويل حتى استطعت أن أقف على رجلي مرة  أخرى فهذه المرة كانت الوقعة قوية فلا مصيبة توازي مصيبة الموت,وأصبحت صورته تواسيني في ليالي ظلمتي الأبدية,أصبحت أيامي بلا طعم أو رائحة أو ملمس لقد رحل توأم الروح وأخذ معه كل شئ جميل ، فحياتي بقربه أشعرتني كأنه أخذني إلى الجنة ومن ثم رمى بي إلى أعماق جهنم.

سالت على خدها دمعة مسحتها بخفة ورفعت عينين باسمتين في وجهي,هنا خطر لي أن أسالها:

وماذا عن الآن ألا يوجد حب في حياتك؟

تبسمت بخجل العذراوات وتمتمت بحياء:

لا بل هناك شاب قريب مني في العمر مأساته كبيرة ، حيث  توفيت زوجته وأولاده في حادث سيارة وعاف بعدها الزواج لخمس سنوات,تعرفت عليه من خلال الإنترنت ونشأ بيننا حب حقيقياً خاصة أننا متوافقين في الطباع فنحن نقضي ساعات طويلة نتواصل فيها من خلال الدردشة والكاميرا,أعرف كل شئ عنه وهو كذلك,أحبه بعمق أعاد لي وهج حياتي التى فقدتها من زمن والآن أشعر أنني لن أستطيع العيش من دونه.

سألتها بتعجب:

ولماذا لا تتزوجان؟!

تنهدت بعمق وقالت:

المشكلة أنه  من سكان مدينة أخرى وإذا تزوجته فسأفقد حقي في الراتب التقاعدي الخاص بالمرحوم وسأفقد حقي في المعونة التي أحصل عليها من الضمان الاجتماعي بسبب كوني أرملة, كما أن زوجة المرحوم الأولى ستستولي على المنزل وإذا ساءت الأمور بيننا ووصلت للطلاق كما حدث قبل فسأعود لمنزل أبي وأنا لم أعد أقوى على الحياة مع أهلي مرة أخرى، خاصة بعد أن تعودت على الاستقلالية,أجد نفسي في موقع حيرة فأنا أريد أن أعيش معه وفي الوقت نفسه لا أستطيع أن أخاطر بكل شئ أملكه خاصة أنني بلا وظيفة,كما أن أولادي من طليقي الأول يعتمدون علي ماديا في بعض الأحيان.

تشكلت على وجهها ملامح تفكير هي الأكثر عمقا من كل المحيطات وأكثر دقة من تشققات القمر,صمتت لهنيهة ومن ثم برزت في رأسي فكرة فقلت بسرعة:

وماذا عن الزواج المسيار؟

نظرت لي بحزن ومن ثم قالت بمرارة:

فكرت فيه مراراً وتكراراً ولم أجده نافعا فكيف ستكون صورتي أمامه وأي حياة هي التى تكون في ظلمات الليالي.

شعرت لحظتها برأسي يدور لدرجة شعوري  بأن الكرة الأرضية تلف حولي ,وهنا كان وقت الاستراحة قد أزف فتركت وأنا أتمتم في سري :" أي تعاسة لازمت هذه المرأة وأي ألم هذا الذي تعيش فيه كم اشعر بالأسى من أجلها,لم أجد ما أقوله لها فحياتها سلسلة من الأخطاء المتواصلة التى لم تكن مسئولة عنها لكنها كانت كالحلقة المتصلة,ذنبها الوحيد أنها كانت ضحية للعنف والتسلط والجهل وأمثالها كثيرات على الأقل هي وجدت طريقة لتبتسم لكن غيرها لم يستطعن الاهتداء إلى عنوانها في دروب  الحزن .

قاصة سعودية