غربة
زهية شاهين
أغلقت التلفاز بعنف ويبدوا الاحتجاج في عصبيتها وزفير أنفاسها القوية ...فقد كرهت سماع الأخبار المتكررة ومشاهد الموت في كل مكان, ومشاهد غزة التي لا ترحم غربتها, ..جلست تبكي قهرا فشعورها بالوحدة والعزلة خانق ,تبكي لقسوة إحساسها بطفولتها التي تقف عند زمن لا تريد الانتقال منه رغم تعرضها لتجارب الغربة القاسية إلا أن ضعف طفولتها ينمو في قلبها الموجوع ....تتذكر ذلك القرار الذي حسمته العائلة حينما قرروا إرسالها إلى غزة لدراسة الطب صادروا بذلك رغبتها في البقاء في السعودية عند أسرتها ...وبقيت فترات طويلة تناقشهم وهم يرفضون نقاشها بحجة أن مستقبلها لا تدركه هي.. كونها صغيرة , وان العلم الذي ستحصل عليه لن تعرف قيمته إلا مع صعوبات الحياة وانه الحماية الوحيدة لها ...هي تدرك أنها في تلك اللحظات ما كانت تحتاجه هو حماية حضن أمها وثرثرت أخواتها وتفحص شوارع بلدتها وممارسة تسلق صخور بحرها ...لم تحتمل أحلامها غزة كبلد هو وطن على مستوى الخيال ., ولم تمشي قدماها تلك الشوارع , ولم تخرق حتى بمخيلتها يوما تلك البيوت المليئة بالبشر والهموم ...لم تكن غزة سوى جزء من علم أو خبر لا يثير اهتمامها ...ولكنها تفاجأت بتلك الغزة تذهب بعالمها الخاص إلى بحرها, فتتعلم الغرق في حبها, ويكبر التناقض في داخلها حينما تختزلها غزة في رجل أصبح يدب بقدميه على صفحة يومها ويشاغلها, ومابين الكتب الثقيلة وحضن أمها يركب مخيلتها فتداعب أنفاسه أفكارها فتشيحه بين الفينة والأخرى ...تكتب كعاشقة :
من أعطاك الحق يا رجلا ..الوقوف على بوابات لهفتي ...أرجوك غادر فلا احتمل غربتي حتى احتمل مسؤولية وجودك.
تمزق أوراقها فما يبقى خلف المشاعر هو قيد للذاكرة التي لا تريد فيها بقاءا لأحاسيس ماضية فيثقل حملها ...تذكر كيف التقت به في احد استراحات البحر كان يسترق إليها النظر وسط رفيقاتها , ولم يبدوا عليه انه مراهق في نظراته ...لم تفسر لنفسها كيف تكون مراهقة النظرات ولكن شعور خفي وجميل داعب قلبها ..أن يهتم بك شخص مجهول لا يعرفك ولا تعرفه وقد يشكل لك خطرا وقد يشكل لك حياة ...خاطبت نفسها بين النظرة والنظرة ومعالم المكان والبشر تتحرك حول مداراته ..ولم تعرف تفاصيل أحداث وصوله إليها سوى أنها تنام على كلماته التي تملأ فراغات القلب والجسد ..وذلك الحضن الذي فطمته عنه أمها قسرا بحجة أنها كبرت عليه ولم تعلم أن طفولتها مازالت تنام في سريرها تهدده بالأحلام ..وكانت كلماته الليلية تحنو عليها
ولم تتوقع يوما أن تجد تلك الأيام دون خطاه في عالمها فتحتمل كل غضبه ونزقه لتحفظ لنفسها طزاجة العشق والونس .
رن هاتفها, فجاء صوته بعيدا وقلقا وغاضبا :
من هو ابن عمك الذي أراد الزواج بك ؟...لماذا لم تخبريني بذلك ؟..هل كنت تحبينه ؟...خدعتني لعدم صراحتك لي !!
سقط في يدها لم تستطع الرد , استل الكلام نفسه إلى جوفها متهتها عاجزا عن الخروج ...صوته يعلو حتى تشعر انه يلف كل المدينة كطفل نزق يرفس برجليه وكل جسمه برغبة جامحة للخروج عن العقل والمنطق والحقيقة والرغبة .
ردي ..كل المعلومات صحيحة لقد كنت تكرري لي إني الوحيد الذي اجتاحك ..وأنت تكذبين .
أرادت أن ترد ...أنت الوحيد فحتى لو كان رجال الدنيا قبلك قد أحببتهم وأحبوني فلم يجاوزوا حدود الهواء حولي ...أنت من سكنت على وسادتي وأحلامي وكتبي وأفكاري ومستقبلي ..لم أشبه تلك الفتاة التي أحبتهم مراهقة ..أنا أشبه نفسي التي أحبتك ناضجة واحتللت جسدا مسكونا بك ولم تسكنه واقعا .
لم ترد ...واستمر يزبد حتى تلاشى وبقي ذلك الرجل تستلمه غيبوبة التملك ورعب فقدانها ...شعرت كأنه يبحث عن آثارهم على جسدها ومخيلتها ...تستفزها عنجهيته وحالة الفصام التي قسمت جزأيه ...
تساءلت : من أعطاك الماضي الذي املك ..التاريخ لي والذاكرة لي والجسد لي ...وليس لك إلا ما أعطيك ..وما أعطيك لا يفقدني اكتمالي ...لم تأخذ مني سوى ما يخصك ..ما كان حلما وفكرة ...لم أعطيك سوى صدقي في تلك اللحظات ..لم أخن نفسي ....أحببتك , ولكنك لم تحب حتى نفسك .
تستطرد بعنف :
يا للهول أصبح صوتك مقزز لا أود سماعك , أنت فقدت نفسك ..أراك صنما مقزز ..اذهب بعيدا عني .
أغلقت الهاتف وكأنها وقعت في كرة ثلج ضخمة تحسست برودة جسدها وأحلامها وشوارع بلدتها وشاطئ غزة وحضن أمها ...تحسست آثارهم على جسدها فحمدت الله انه القدسية الوحيدة التي لم تسمح لأحد أن يقترب منه ...ولكن قدسية أحلامها مسها الكثير وتمزقت مع كل واحد منهم جزءا ولم تبقى إلا كتبها ..تركت المكان إلى مكان اعتادته كلما حاصرتها الأماكن والهموم ...ذلك البحر , مرت بوجوه وسماءات وبيوت وأحلام وفجأة وجدت سماء غزة تشتعل ...صاروخ يمزق نهارا كان للحياة , وطفولة كانت تحبوا في حضن أم ...صرخت كان صوتها أعلى من صوت الإسعاف وكان وجعها يتوزع بين بلدتها وسماء غزة محفور على غيماتها وجوه بريئة تأتي ببسمات تصبح مطرا يختلط بسيل الدم والحب الذي يلف الطرقات ولامبالاة عشاق سابقين أصبحوا يمتهنون الخيانة , وتتساءل من هم خونة تلك الابتسامات التي أمطرت ماء الحياة والموت ؟!!!!!!!!!!!.
ولم توقفها صرخات الطرقات والسماء , لكنها استمرت تركض لذلك المكان – البحر, تحكي له أنشودة الحياة بذلك الجسد الممشوق بالكرامة وقهر المنافي , ( كان البحر في مكانه ... وهنا قطفت الصور الأولى, وهنا سرقت الورد الأول ,وهنا تعلمت الدروس الأولى ) محمود درويش – ذاكرة للنسيان