أحلام ليست موؤدة

نايف عبوش

  في ظروف قاسية،عاش طفولته ببؤس، يوم ذاك، كجزء من حال عام، من متلازمة فقر مدقع، وجهل مطبق،وأمراض متوطنة.. فكان يرتدي  دشداشة بالية،بالكاد تغطي أذيالها المتهرئة أسفل ركبتيه.. متسخة بغبار رعيه الأغنام،من رقبتها حتى كميها.فهولا يملك غيرها، لاستبدالها وغسلها. اعتاد أن يتناول التمرالزهدي ملء كفه الأيسر، في كل وجبة، مع لبن شجوة مخضوض خال من الدهن، ورغيفا من خبز التنور، حيث غالبا ما اعتاد أن يطرحه على فخذه الأيمن. ولا يعدم الكما، والخباز وجبة يومية في الربيع. لكنه قلما كان يحظى بأكل الزبد، وبيض دجاج العرب، فقد يبتاعه الأهل في السوق، بين الفينة والأخرى، مقايضة بالسكر والثياب. لعب مع أقرانه الحورة والدامة،وتبادل معهم مباهمة الحملان، وملط سقف الدار بالطين والتبن،مرة كل بداية خريف، اتقاء مطر الشتاء. شرب الماء الأجاج بكلتا يديه، تارة من الغدير،وأخرى من البئر،قبل أن تعب الغنم ماءه.أما ماء النهر العذب، فكان مخصصا لعمل الشاي والقهوة. لقبته الختيارة جدته،( سبعي)، لنشاطه وسرعة حركته..فشاع بين الأهل والربع هذا اللقب، فنبزه الجميع به ملاطفة له،حتى بعد أن دهمه المشيب.حضر مجالس الدواوين في قبيلته، على  صغر سنه، فتعلم منها الكثير من الأصول،وعاش تقاليد العشيرة بكل تفاصيلها.فالمجالس عنده مدارس،قاعدة كان يسمعها دوما من وجهاء القوم. بصعوبة أكمل الصف الأول الابتدائي، في القرية المجاورة، فالجدة كانت تمنعه من الذهاب إلى المدرسة، مفضلة أن يرعى لها الأغنام والماعز، لان(المكتبلي) كما اعتادت أن تنعته،يوم ذاك،كان لا يعني لها شيئا،وهو الصبي الذي يبكر في سرحه الحملان، قبل أن تبزغ الشمس، فتشبع شياهه من الكلأ الديرة ضحى،لتعود إليها للحلب ظهيرة كل يوم، مدرارة الضرع،فتملا قدرها النحاسي العتيق،ذي الحلقتين.لكنه كان يختلسها الذهاب إلى المدرسة،لينسل إليها بين الحين والآخر،بعد أن يستودع أنعامه لدى الصبية السرح من أقرانه،لولعه الشديد بالتعلم. ترك المدرسة إذن على غير رغبته، أحب الغناء الريفي كثيرا،فكان مولعا بسماع العتابة على الربابة،ويطرب لأنغام الناي.يتوجد كلما خلا بنفسه في البرية، فيدندن النايل بعذوبة،دون أن يكتشف هوايته احد.سيق للخدمة العسكرية الإلزامية،جنديا مكلفا، عندما بلغ الثامنة عشرمن عمره.ولتميزه على أقرانه، وشطارته في الخدمة، أصبح عريفا في الجيش،بوقت قياسي، بما منحه آمروه من قدم متتابع،اختزل عليه شرط المدة. ولأنه الوحيد في القرية بهذه الرتبة، فقد عرف من الجميع، بالعريف إلى اليوم. وذات يوم سمع بشرى سارة من آمره،أن العسكر سوف يوزع  دورا، لضباط الصف قرب المعسكر. فطار فرحا بذلك الخبر،ولم يسر به أحدا، حتى من أدنى المقربين له من ذويه،فهو العريف كاتم الأسرار،بحكم مهنته.لكن أحلامه الوردية بالحصول على الدار، ما فتئت تتزاحم في رأسه من ساعتها،لفرط ثقته بما أسره به الآمر،فهو قدوته، الذي عرفه بالضبط العسكري والدقة. وتمنى على آمره،لو يعاونه ساعتئذ، أن تكون الدار التي قد تخصص له، إلي خارج طرف المعسكر،صوب الشارع العام، حتى ولو كانت قرب مكبات نفايات الحي العسكري، كي يستقر فيها في استراحاته اليومية والدورية، ويأوي إليها عند عودته بعد العشاء، من عناء دراسته في المتوسطة المسائية،وربما كان يزمع إيواء تلاميذ قريته، الدارسين في المدينة، والمارة من قومه،ممن يعسر عليهم المبيت في الفنادق، لعوز مزمن.

وما أن حصل على الدار، بعد حين،حتى أحس أن حلمه الآن قد تحقق،وان عليه أن يبادر في الحال، لتنفيذ ما كان يتوارد له في خاطره، من خدمة ربعه. وهكذا ظل  يتساوق بوفاء، مع أحلامه المتزاحمة في مخيلته،فبقي حمولة محفورة في ذاكرة الربع، يعتز بأريحيته الجميع، ممن قدم لهم عونا، من دون من منه، أو تقريع.