الهارب

أحمد حمودة

ركض بأقصى ما يستطيع ناجيا بنفسه حين سمع طلقات الرصاص انطلق هاربا منهم جميعا: الشرطة والمحتجين، انحدر مع أول طريق فرعية صادفها وانعطف إلى زقاق ساكن كالموت، ووجد مدخل بيت متهالك أو ما يمكن أن يكون عتبة فالتصق بالباب محاولا الاختفاء عن أعينهم كان تنفسه سريعا وضربات قلبه يحسبها لشدتها قرعات طبل تضج في قعر آذانهم، وهناك غير بعيد كثيرا تتلاحق الطلقات ويسمع صراخ يختلط فيه صوت التهديد بصوت التوسل والتألم، وشيئا فشيئا بدأ يهدأ ويسترجع أنفاسه حين خفتت الأصوات أو كادت، وتملكته رغبة في البكاء فخشي بكاءه، لكن دمعة تحدت خوفه فانحدرت فأسرع بمحو أثرها،ولبث يترقب...

وذكره حاله قابعا في هذا الزقاق الجانبي الرطب بتلك الليلة المظلمة حين كاد يودي به خوفه، وقد عاد من  تسخيرة إلى دكان البقال  .فما كاد يصل الدرب* حتى بدا له الظلام الحالك في حضن الساباط* غولا يحول بينه وبين الدار، وبدا المصباح الشاحب - هناك في آخر الدرب حيث الدار - سفينة نجاة في أعماق بحر لجي، وتسمرت قدماه ، ولم يستطع التقدم نحوها .

وقف غير بعيد يرقب لعل أحد الجيران يمر به فيصحبه إلى البيت ولما طال عليه الانتظار وثقل جلس القرفصاء يبكي ثم أخذ يشهق مرتعبا وعيناه ترقبان الظلام الدامس في حضن الساباط .

و لكن الذي كان ينتظره كان أشد عليه وطأة من ظلمة الساباط!! إن القادم سليمان ذو الشاربين المعقوفين الكثين والأنف الكبير والصوت الأجش *، وكم كان يخشاه ويتحاشى ملاقاته نهارا فكيف به في هذه الليلة المنكرة ؟ 

زاد رعب المسكين ولم يستطع الحراك ، واشتد بكاؤه وصراخه عندما أمسك سليمان بيده ليدلف به إلى ظلمة الساباط الطويلة، ثم إلى البيت، وبلل سرواله خوفا ورعبا ، وكانت ليلة ليلاء بكابوسها حين يحاول النوم فيطل عليه وجه سليمان من ظلام الغرفة ويصرخ مستنجدا فتقرأ عليه أمه الصمدية ليغفو على صوتها الرخيم.

عم السكون المخيف الزقاق والطريق المجاور، وسمع صوتا، فانتبه من سرحانه وهو منكمش في عتبة الباب الذي تفوح منه رائحة الرطوبة .. كان صوتا كمشي على قش، فارتعب من جديد . . . تراه شرطيا أو عسكريا يبحث عن الهارب المختبئ ؟

وكاد ينطلق قلبه من صدره فرقا لولا أن ظهرت المسكينة تمشي بسرعة..  قطة رمادية هزيلة  .. دنت منه وبدأت تموء وتتمسح به ، فأشفق عليها ومنها، وأبعدها عنه بحركة من يده أخافتها، وتنفس الصعداء "الحمد لله .. لم تكن سوى قطة .. إن الأمر ليس  بالسوء الذي أظنه .. ثم إني لا علاقة لي بالمتظاهرين.. كنت في طريقي إلى الدكان لكنهم اندفعوا صوبي هاربين وجرفوني معهم... وإلى متى سأظل قابعا هنا ؟ ينبغي أن أتحرك .. أن أعود إلى البيت ، وتذكر دراجته العادية رفيقة الطريق وإرثه الوحيد عن أبيه التي فقدها اليوم بين الجموع ، أو على الأصح تركها مرمية هناك، وانطلق لا يلوي على شيء، ناجيا بنفسه، فأيقن أن محنة جديدة سيعانيها ما شاء الله من الزمن مع الحافلات.. " لا يهم علي الآن فقط أن أعود إلى بيتي سليما.. لم أعد أسمع طلقات الرصاص ولا صراخ الشرطة والجنود ولا.. " فجأة علا ضجيج قريب جدا حتى إنه هز جدران وأبواب المنازل المتهالكة في الدرب الضيق الساكن..  ثم حلقت في السماء طائرة مروحية فانكمش من جديد في مكانه وقد جف حلقه وتسارعت ضربات قلبه ، وهمس ببعض ما حفظه من أدعية، ثم أخذ على نفسه عهدا أن يصوم لله عشرة أيام .. نعم أن يصوم فليس معه مال ليتصدق به وحرفة الدراجاتي (سكليس ) المتواضعة لا تكاد تلبي حاجات طعام الأولاد ليومهم ..

ضجر من طول الانتظار، وشجعه الهدوء الذي عاد إلى المكان و محيطه، فتحرك حذرا نحو مدخل الزقاق مرهفا السمع، وحين خرج إلى الطريق المنحدرة من الشارع، كانا هناك يحملان السلاح وحدهما ويخطوان في اتجاهه .. يسمع وقع أحذيتهما على إسفلت الطريق الفارغة الساكنة كطلقات رصاص..  لم يفكر في شيء وإنما أسلم رجليه للريح يعدو بأقصى ما يستطيع ، وسمع لغطا ونداء و...  صوت طلقة، خانته على إثرها قدماه فهوى إلى الأرض، كان وحده هناك على إسفلت الطريق مدرجا بدمائه. 

               

*  السّابَاطُ : سَقِيْفَةٌ بَيْنَ دارَيْنِ تَحْتَها طَرِيْقٌ  / المحيط  في اللغة

*  الدرب : في الدارجة المغربية زقاق ضيق له نهاية تلفه البيوت