العمر الذي مضى
غسان الشريف
[1]
· أما زلت مصراً على رأيك يا أسامة؟
· نعم يا عثمان ! ولا أريد أن أتحدث في هذا الموضوع أرجوك…
· كم أنت رجل عجيب, لقد إعتذر منك حارث مراراً وتكراراً, وأنت في كل مرة تزيد إعراضاً وإصراراً على رفض إعتذاره, ألا يكفيك أنه أبدى أسفه على إهانته لك أمام الملأ وسرد في مدحك طويل الكلام وأرسل الكثير من المراسيل التي تدعوك إلى مسامحته.
· أنت لا تعلم مقدار الجرح الذي أصابني به !
· أنا مقدر موقفك تماماً يا أسامة ولا أقلل مما فعل, ولكن المسامح كريم.
· أتعلم أنني لم أتمكن من النوم الهادئ منذ أن أهانني في ذلك العشاء أمام أصدقائه المقربين بإتهامه لي أنني جبان وأنني لا أقوى على قول الحق, لقد كان هذا منذ شهر, ولكني مازلت أشعر بذات الألم إلى اليوم.. إن لم يكن ألمي اليوم أكبر!
ربت عثمان على كتف أسامة وقال له في هدوء:
· نعم أنا أرى ذلك يا صديقي, بل وكل أصدقائك يرون أنك لست أسامة الذي نعرف, فلقد انعزلت عن كثير من جلساتنا وبدوت كثير الغضب مؤخراً…!
التفت أسامة إلى عثمان بسرعة واحتد في النظر إليه, ومن ثم صرخ في وجهه بقوة:
· ماذا تعني..؟ أتراني فقدت عقلي, كنت أطمع أن تتفهم موقفي وها أنت الآن تزيدني هماً, أنا لا أجد صديقاُ بينكم؟ أنتم جميعاً متعاطفون معه!
هز عثمان كتفه وهو يحاول أن لا يبدي الانفعال على وجهه, ثم رد على أسامة في هدوء بعد أن أخذ نفساً عميقاً:
· الأمر لك ولكني أحببت لك الخير, ولذلك أردت أن تغفر زلته وتسامحه, لكي تزيل سخامة صدرك ويذهب عنك الهم والحزن… وعلى أي حال نحن أصدقاء يا أسامة, لا بل إخوة, وأسأل الله أن يرينا جميعاُ الطريق الصحيح, ثم مالبث أن استأذن وخرج من بيت أسامة متعللاً بموعد قريب.
[2]
رجع أسامة إلى مجلسه بعد أن ودع عثمان ليحتسي القهوة وحده في غرفة الضيوف, ثم قام إلى مكتبه في الطابق العلوي ليتسلى على جهاز الكمبيوتر منتظراً قدوم زوجه من بيت أخيها بصحبة أبنائهم.
كانت الساعة قد شارفت على العاشرة وجو الغرفة خانق, ففتح جهاز التكييف ومن ثم جلس على مكتبه ليتصفح الإنترنت, الأخبار مملة وليس هناك من جديد, ومازالت الثورات العربية متصلة. دخل أسامة على صفحته في الفيس بوك, وبنظرة سريعة دار على حالة زملائه وأصدقائه, أعياد ميلاد ومناسبات وإحتفالات وصور ضاحكة ونكت وأخبار من هنا وهناك, ولكنه لم يتفاعل مع أي منها ولم يبد رغبة في التعليق أو الإعجاب بشئ مما قرأ. فقد كان أسامة منذ حادثته مع حارث, معتزل الناس, منغلقٌ على نفسه, ولا يشعر بالرغبة في الخروج أو الإستمتاع بالحياة, ولا يكاد يتذكر قصته مع حارث, حتى يشعر بثقل في صدره, ويجثم عليه هم وقلق لا يتبدد إلا بشجار مع زوجته أو نهر لأبنائه وبناته.
تنقلت أصابع أسامة على صفحات الإنترنت بشكل آلي, وهو يتذكر نظرة حارث المتهكمة, وضحك أصدقائه عليه, وكيف أن أسامة قد إنفجر فيهم جميعاً وقد أعترته نوبة من الغضب الهستيري, فبدأ بشتمهم والصراخ فيهم مما دعا إدراة المطعم للطلب منه أن يغادر المكان وإلا استدعوا له الشرطة.
بدأ أسامة يتصبب عرقاً وهو يتذكر ذلك الموقف, وأصابته رعشة خفيفة من وتلفت حوله ليبحث عن علبة المناديل وهو يحدث نفسه: يا إلهي كيف فعل ذلك الحقير تلك الفعلة؟ كيف تجرأ على أن يهينني أمام الناس؟ لو رأيته أمامي الآن لأوسعته ضرباً وشتماً.. ياله من مجرم عديم الإحترام!
لم يقطع حبل أفكار أسامة إلا صوت بريد إلكتروني بملف مرفق جاءه على حسابه من عثمان, ولكنه تردد لفترة قبل أن يفتحه, فعثمان ليس له عمل هذه الأيام سوى تزيين صورة حارث وتذكيره بإعتذاره وحبه له, وأنه إن كان تصرف حارث كان ناجماً عن تسرع وطيش إلا أن ردة الفعل من أسامة كانت مبالغة جداً. ولكن لدواعي الملل, ضغط أسامة على البريد وأنتظر قليلاً إلى أن تتحمل الصور, ولم تكد عينه تنظر إلى أول صورة في ذلك الملف حتى تدفقت في وجنتيه الحياة وبان عليه البشر وحدث نفسه قائلاً: يا الله ما أجمل هذه الصورة, هذا أنا وعثمان ونحن طفلين في المرحلة الإبتدائية, وهذا صدقة إبن مدير المدرسة, وهؤلاء.. لم أعد أتذكر أسمائهم, كانت أيام جميلة, منذ عشرين سنة عندما كنا صغاراً ولا يحمل الواحد فينا هماً سوى اللعب وفقط!
اعتدل أسامة في جلسته وبدا عليه الإهتمام وهو ينزل الصفحة رويداً رويداُ عند كل صورة ويتفحص تلك الشخصيات التي جسدتها الصور في لحظات مختلفة من الزمان, المتوسطة الثانوية ومن ثم الجامعة, قبل أن يصل إلى الصورة الأخيرة من الملف فوقعت عيناه على حارث وهو يحتضنه من كتفيه ويحيطه بذراعيه الواسعين وقد ألصق خده على وجنته اليمنى وهما ينظران إلى الكاميرا وحولهما الكثير من الأصدقاء في حفلة تخرجهم من الجامعة وقد بدت عليهم جميعاً أمارات البهجة والفرح. وقف أسامة عند هذه الصورة متأملاً, وجالت به الذكريات الجميلة والمواقف الطريفة وشعر بكثير من الحنين لتلك اللحظات الهانئة التي لم يعد يتملسها في دوامة حياته, وجالت به الذكريات مع حارث الذي غمره بالحنان يوم فقد أباه في السنة الثالثة من الجامعة, ومساعدته الدائمة له قبل موعد تسليم الواجبات بوقت قصير. ولكن من خلال هذه الذكريات برزت صورة حارث في تلك الحادثة وهو ينظر إليه بإزدراء, فبدأ أسامة يشعر بالثقل في نفسه, فأعاد النظر بسرعة إلى صورته مع حارث وإلى أولئك الأصدقاء الذين مازال يذكر لكل واحد منهم موقفاً جميلاً, فهدأت نفسه وغمرته راحة عميقة وسكينة لم يشعر به منذ زمن, فركز نظره على تلك الصورة وملأ عينيه بتفاصيلها الكثيرة وأحاط نفسه بتلك الإبتسامات الواسعة وبحضن حارث ذا الساعدين القويين, فإذا بالهدوء يغمره وبدأ يشعر بتراخي في أطرافه ثم أحس برغبة عامرة في النوم, فهم بإستغلال هذه الفرصة التي لم ينعم بها منذ مدة, وأغلق جهاز الكمبيوتر بسرعة, ودخل غرفة نومه ليستسلم لنوم عميق.
استيقظ أسامة في الصباح الباكر تعلوه الحيوية والنشاط, فبادرته زوجته بإبتسامة عريضة وقد علتها البهجة قائلة: ياحبيبي! لم أر وجهك بهذا السرور منذ فترة طويلة, كم أنا مسرورة اليوم من أجلك يا أسامة.
· لا تتصوري يا مريم كم كنت مرتاحاً في نومي هذه الليلة, وكأنني لم أنم قبلها, لقد كنت أحلم بأيام الصبا وحولي أحبابي والنور المتلألئ في جنبات الدنيا يملأ نفسي بهجة وسروراً.
· يا سلام, منذ متى هذه الشاعرية يا أسامة!
· أوه يا مريم.. لقد رأيت في المنام حارثاً وهو يأخذ بيدي ويقفز معي فوق السحب البيضاء الواسعة, كنت أشعر أنني خفيف جداً وأني صدري لا يحمل حقداً على أحد, ومازلت أشعر بهذا وأنا أحدثك الآن, لقد طلب مني حارث أن أسامحه, فسامحته بدون ترددت, لم يكن لشئ في هذه الدنيا أهمية ونحن فوق السحاب, كان كل شئ يبدوا صغيراً ولا يكاد يذكر. هطلت دموع سريعة من عيني أسامة وهو يضحك قائلاً: لا أدرى ماذا أصابني, أشعر كأني بعثت من جديد يا حبيبتي. قومي الآن يا مريم.. قومي وحضري لي إفطاراً شهياً, أشعر أنني أريد أن آكل وآكل وآكل بلا توقف.
ردت مريم وهي تغالب دموع الفرح وهي تحضن زوجها وقالت في سعادة: إفطار فقط, إن طلبت عيناي أعطيتك إيها يا حبيبي, هذا يوم سعدي, لقد عدت إلي من جديد يا أسامة, حمداً لك يارب!!
[3]
تهيأ أسامة لصلاة الجمعة وأختار عطراً جميلاً ولبس أفضل ثيابه, وتناول سماعة الهاتف, ودق على عثمان قبل صلاة الجمعة بساعة تقريباً, كانت رنات الهاتف تبدوا طويلة والثواني بينها تمر ببطأ شديد, وما أن رد عثمان حتى بادره أسامة قائلاً بصوت فرح قائلاً:
· اليوم بعد صلاة الجمعة سنذهب سوياً إلى حارث يا عثمان, أرجوك, إلغ كل مواعيدك, لقد قررت أن أحضنه كما حضنني يوم تخرجنا من الجامعة في تلك الصورة التي أرسلت لي البارحة, وأعلن لك من الآن أني قد صفحت عنه إلى الأبد.
رد عثمان ببطء بصوت أجش: طيب, إن شاء الله.
· إذاً موعدنا في المسجد المجاور لبيت حارث, إتفقنا؟
· طيب.. طيب.
· أرجوك أن لاتخبره يا عثمان, أريد أن أفاجأه في المسجد واحتضنه بسرعة بدون أن يشعر بي. لم يرد عثمان على أسامة, الذي تابع قائلاً: إتفقنا.
رد عثمان بصوت مكتوم: طيب.
لم يعر أسامة لصوت عثمان إهتماماً, فقد كان متحمساً للقاء حارث, ولعل عثمان قد استيقظ للتو من نومه ولهذا لم يكن صوته طبيعياً, خرج أسامة إلى المسجد سريعاً, فوجد عدداً كبيراً من السيارات تحيط بالمسجد من جوانبه الأربعة, تعجب أسامة من هذا العدد الغير مألوف في مثل هذا الحي الصغير, فأوقف سيارته أمام بيت حارث, واتجه صوب المسجد مشياً على الأقدام.
دخل أسامة المسجد فتلفت يميناً وشمالاً, فوجده مليئاً بالمصلين مابين راكعٍ وساجدٍ وقارئ للقرآن, فيمم بوجهه صوب المحراب, فوجد نعشاً مغشى بغطاء أخضر, فوقعت في نفسه الرهبة, وشعر وكأن شيئاً سقط في معدته, فأخذ طرفاً من الصفوف الخلفية وجلس في مكانه والتوجس يدفعه ليعرف من صاحب هذا الكفن.
بعد صلاة الجمعة, وما إن سلم الإمام من صلاة الجنازة, حتى هب المصلون جميعهم ليخرجوا النعش من المسجد ويرفعونه على إحدى السيارات المجهزة ومن ثم استعدوا لركوب سياراتهم, نظر أسامة فيمن حوله كالتائه ونسى ما جاء من أجله وقد غمره إحساس عميق بعدم الرغبة في معرفة ما يجري, وبينما أسامة واقف في مكانه لا يبرحه, ظهر عثمان من بين الزحام, فأمسك بيده وصحبه إلى الخارج بدون أن يلتفت إليه وهو منكس رأسه على الأرض وقد بدا عليه التأثر الشديد, استسلم أسامة لقيادة عثمان وقد بدا عليه الذهول وركبا السيارة التي اتجهت نحو المقبرة بدون أن يتكلم أحدهما إلى الآخر.
ما إن حضرت الجموع إلى المقبرة حتى تحرك الكل ليحملوا النعش على أكتافهم ويتبعهم أسامة وعثمان في مشية جنائزية بطيئة والجمع قد تقدمهم بمسافة طويلة, نظر أسامة إلى عثمان وقد بدا على وجهه القلق:
· ألن نذهب اليوم إلى حارث يا عثمان؟
لم يستطع عثمان ان يتمالك دموعه فأجهش بالبكاء وغطى وجهه بشماخه الأحمر وتقدم عن أسامة صوب الجمع الذين كانوا قد وصلوا إلى القبر. أسرع أسامة في مشيته وقد غلبته الدموع ليحاذي عثمان في مشيته وقال:
· أتعني أن..أن..
لا مستحيل.. لا لا..هذا غير صحيح.. قل لي يا عثمان أن هذا غير صحيح!
قل لي!..
كان الصديقان قد وصلا إلى القبر وقد تجمع الناس حوله بعد أن أدخلوا حارث فيه, ليخرج أحدهم بعد برهة من القبر ويصيح في الجمع: أهيلوا عليه التراب, فبدأ الناس بإهالة التراب والقبر يتغطى بسرعة, وما هي إلا لحظات حتى كان القبر قد سوى بالتراب, ولم يعد يظهر منه سوى قبة خفيفة. وبدأ الناس يرجعون نحو بوابة المقبرة وهم ينفضون أيديهم من الغبار الذي علق بها, ويتمتمون بأحاديث خفيفة ودية بين بعضهم البعض, أو يذكرون الله في أنفسهم إلى وصلوا إلى بوابة المقبرة وقد إصطف أهل الميت بجانبها تحت المظلة الواسعة لإستقبال التعزية.
لم تكد قدما أسامة تحملانه وهو بتحرك مع الناس إلى بوابة المقبرة, فاستند على كتف عثمان وهو يمشى ببطء وتدور في ذهنه بسرعة كل ذكريات الماضي ولهو الشباب وأحاديث الأصدقاء ونكتهم وحكاياتهم وأمور كثيرة لم يكن بينها ذلك الموقف الذي حدث بينه وبين حارث قبل ثلاثين يوماً وشيئاً من الساعات وقليلاً من الدقائق من عمر الزمن.