احتضار
أمل الزعبي
غادرت الجارة ام محمود بعد أن ملأت بزغاريدها الشهيرة الفضاء الصغير الممتد من شارع فرعي يصل بين بيتها وبيت أبي عبدالله ... فهديل ابنة ابي عبدالله قد نجحت في الثانوية العامة وبمعدل باهر يؤهلها ان تدخل أي جامعة شاءت ... كانت أم محمود قد أحضرت معها كيسا من الحلوى ووزعته على اطفال الحي الذين جذبتهم تلك الزغاريد ...وبعد مغادرتها عند منتصف الليل مشكورة على ما بذلت لجيرانها أقفلت أم عبدالله الباب واتجهت متثاقلة الخطى نحو حجرة نومها .. حيث أبو عبدالله يتمدد على فراشه وبين يديه علبة تبغ رخيصة ، فتحها وأخرج السيجارة الاخيرة منها ، وضعها بين شفتيه ولم يشعلها ...ادخل يده في جيبه الفارغة الا من الفقر وقال لأم عبدالله : سأشعلها غدا أثناء ذهابي الى البلدية .سألته أم عبدالله وهي تتثاءب : من أين سنشتري الخبز غدا ؟
ابتسم وضحك ضحكة غامضة لا تفسير لها وقال : " خليها على الله " لعل أحد الجيران يرسل لكم خبزا بائتا من عندهم ...
في أقل من دقيقة كانت أم عبدالله تغط في نوم عميق بعد أن أزاحت هموم الغد عن صدرها ، أما أبو عبدالله فلم يغمض له جفن ، تارة يخرج السيجارة وتارة يعيدها الى العلبة الفارغة وصوت ابنته هديل وهي تقفز فرحا تبلغه بنجاحها الباهر وأمنيتها بدخول الجامعة قريبا مع صديقتها ، يصك اذنيه فتصعد تنهيدة بحجم السماء من بين الضلوع ،ويكاد يختنق ، كيف له وهو موظف بسيط في البلدية ان يحقق لإبنته حلمها ؟ ... تململ في فراشه نام على جنبه الايمن أخرج السيجارة وبدا يتأملها بحسرة وشغف توعدها ان يجهز عليها مرة واحدة في الصباح ... تساءل من اين سيشتري علبة اخرى ؟ لا ينوي ان يستدين من احد فلقد اغرقته الديون ... أغمض جفنيه يستجدي النعاس والنوم ان يأتي ويرحمه من الهموم التي لا تغادره ، سكين ما وخزت صدره من الداخل فتح عينيه مذهولا ، تسارعت أصابع يده اليسرى تدلك الجانب الايسر من صدره لتمسح أثر الوخزة ، استعاذ بالله من الشيطان ، السكين مرة اخرى توخزه بين الضلوع بلا رحمة ، فتعجز اصابعه ان تمسح شيئا من الوجع ،نظر سريعا الى أم عبدالله التي تسبح في عالم الاحلام وخيال ابتسامة يخيم على شفتيها ، حاول ان يناديها ، شعر بلسانه عاجزا مكبلا ، بدا له ان الاكسجين بدا ينفذ من فضاء الحجرة ، فتح فاهه ليلتقط بعضا من اكسجين لكن لا جدوى ، السيجارة بين اصابعه تحتضر وتسقط أرضا ، أغمض جفنيه باستسلام لا مثيل له لسلطان الموت ، وأحتضرت أحلام هديل ودُفنت كما دُفنت هموم والدها الى الابد ، احتضرت ابتسامة أم عبدالله وغادرتها الى قبر بارد ، من تلك الليلة سكتت زغاريد أم محمود وتابت عن توزيع الحلوى .