حان الوقت حتى أغلق عيادتي وأرحل
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
لاصوت ولا حركة في الخارج , في غرفة الإنتظار سوى حركة الممرضة تقلب صفحات كتاب تنظر إليه وتقلب صفحاته ولكنها لاتقرأشيئا سوى تقليب الصفحات , إنها تبحث عن مصدر ما , حتى يثير انتباهها أو كلمة تراها تشدها للقراءة , ولكن تبدو شاردة قلقة مضطربة ترسل زفرات وتنهدات ويعقبها تثاؤب طويل تفتح فيه فمها على آخره , فيعكر نظرها دموع في مقلتيها ناتج عن الملل وقلة الأكسجين وحسابات كثيرة تدور في داخلها
يقطع خلوتها صوت الجرس والصادر من غرفة الطبيب , تقوم متثاقلة كسولة غير مبالية , وتمشي باتجاه الغرفة ببطئ شديد وتفتح باب الغرفة
الطبيب يتحدث إليها من تحت نظارته السميكة في العقد السابع من عمره , وبصوت مبحوح وخافت يسأل المرضة :
هل يوجد زبون اليوم أو مريض ياعزيزتي ؟
للأسف يادكتور لم يأتي أحد اليوم ومنذ شهرين لم يدخل العيادة رجل قط ولا شاب ولا عجوز حتى
الطبيب لقد حان الوقت لتذهبي لبيتك , فاتركي المفتاح على الطاولة وخذي كل متعلقاتك في العيادة ولا تعودي حتى اتصل فيكي ياعزيزتي
الممرضة أمرك يادكتور , وتقول مودعة تصبح على خير
فيرد عليها وأنت من أهلهه
بعد أن غادرت الممرضة وانتشر السكون الممل بالكامل في الداخل , والطبيب ينظر أمامه في دفتر أعد خصيصاً لكتابة الوصفات الطبية , والحسرة تملأ قلبه , هذه هي رقم الصفحة الأولى رقمها واحد , لقد اشتريتها منذ شهرين
فمنذ شهرين معناها لم يدخل عيادتي شخص واحد
مالذي يجري في الخارج ؟
وهل يوجد سبب ما في أن جميع المرضى والذين كانوا يترددون لعندى خلال عقود قد ماتوا جميعا!!!
فلو فرضنا ماتوا جميعاً , وهذا يعني أنه لايوجد مرضى غيرهم
هو حتما يوجد ولعلي أصبحت رجلاً طاعناً في السن , وأصبح المرضى يختارون أطباء عندهم ثقافة عصرية
يجيب عن سؤاله لنفسه ولكن لايمكن ذلك فأنا أشهر طبيب في هذه البلاد , ومن كثرة زبائني كان البعض ينتظر شهوراً حتى يأتيه دور الكشف
ثم يقول يكاد رأسي ينفجر , كيف انقطع الناس عني فجأة , وما هو السبب؟
لو كنت أعرف السبب لبطل تعجبي , ومعرفة الداء يسهل العلاج , فعلي أن أبحث عن سبب هذا الداء والذي جعل الرجال والشباب أصحاء لايريدون طبيباً مختصاً كاختصاصي بعد الآن
ثم نهض من على كرسيه واتجه نحو الشباك وفتحه وتجولت عيناه باتجاه الشارع العريض والمليء بالناس والحركة الطبيعية , فالناس هم هم لم يتغيروا
ثم عاد لمكانه ثانية يفكر بالسبب ويبحث عن العلة الحقيقية للأمر
لم يستطع الجلوس بدأ يجوب في المكان يتكلم بصوت عال ينظر حوله ينظر للسقف وفي الجرائد الملقاة على الطاولة في غرفة الإنتظار , ينتقل من كرسي إلى أخرى , المكان يضيق عليه , ضربات قلبه بدأت تتصاعد في دقاتها مسرعة , صدره يهبط ويعلو بقوة , يحاول التنفس ولكن النفس يضيق رويداً رويداً
يقول لنفسه ياإلاهي هل هي النهاية هل الموت هو القادم ؟
يستلقي على أريكة في الصالة يغمض عينيه إنه يستسلم للهدوء والسكينة يحاول أن يغفو قليلاً حتى يستريح
ولكن يوجد قطعة معدنية تحت فخذه , إنها تزعجه , يمد يده ليلتقطها , يتلمسها بعصبية سيرميها حتماً ولكن بدلاً من ذلك يفتح عينيه , ويوجه القطعة باتجاه التلفزيون ويضغط على زر التشغيل
خبر عاجل
تعم المظاهرات جميع المدن السورية منادية بالحرية وبإسقاط النظام
وفجأة تغير حاله القلق والمضطرب والمستسلم
لقد تغير حاله فجأة وبدأت ابتسامة ترتسم على وجهه معبراً عنها بحركة من شفتيه , وتخرج مع تلك الإبتسامة كلمة مفادها
هذا هو السبب إذاً
بعد ذلك يعود لمكتبه ويحضر ورقة بيضاء سميكة وعريضة ويكتب عليها :
العيادة للبيع
وهو ينزع اللافتة القديمة ليضع مكانها لافتة أخرى يعرض عيادته فيها للبيع
فيقرأ ماكتب عليها بصوت عال
الدكتور حامد أبو الخصيان , أخصائي الأعضاء التناسلية والخصاوي
عضو جمعية العقم والتناسل وتحسين النسل
ويعقب القراءة تلك بضحكة هستيرية تختلط بكلمات وغمغمات غير مفهومة , وهو يعلق إعلان البيع
ليقول أخيراً:
سأرحل لمكان يحتاجون فيه لعلاجي فلم يعد وطني محتاج إلي.