رحلة الآلام إلى مدرستي

حواديت ضفاوية 1:

حاتم المحتسب - الضفة الغربية

[email protected]

زعتر ، زيت زيتون ، وكوب من الشاي ، وحفنة من اللبنة الخليلة ، على "طَبلية" تتخذ شكل المستطيل ، عليها قطعة "نايلونية" ، وبجانبها بضعة أرغفة من الخبز المنزلي ، هذا وببساطة فطوري ذلك اليوم ، الذي أعدته أمي لي ، لكي أصارع به يوماً متعباً شاقاً يخسر الإنسان الطاقة فيه والعرق ! .

قالت أمي : لا تتأخر اليوم ، ثم أتبعت الجملة بابتسامة "حنان" تسر الناظر ، وتحمل في طياتها كثيراً من رجاء الخاطر ، قبّلت يديها ثم وجنتيها ، فاحتوتني بذراعيها في حضنها ، داعية أن يكون هذا اليوم خير من أيام أُخر ، لحقتني للباب ، استحييت أن أغلقه بوجهها ، تنظر إليّ ، تلعب بشعري الذي ما مسه "الجل" يوماً ، قالت :

- هل نسيت شيء ؟

- لا ، لم أنسَ يا نور عيني 

- بدأنا بالتمويه على ما يبدو ، لا إنك نسيت شيئاً مهماً .

- وما هو ؟.

- مصحفك يا حاتم

قلت لها ، رضيَ الله عنك يا "مرضية" ، من دونك لم أعرف ماذا كنت سأفعل اليوم !.

لوهلة نسيت أنها أم ، بل هي جزء من روح ، ودعتها وكانت تراقبني من النافذة ، مخمرة وجهها المنير ، ذو البشرة القمحية الذي لا يبدو منه إلا نوران يتلألآن في جحري عينيها ، وأنا أمشي مهلاً مهلاً ، حتى غابت شمس وجهها ، ثم أسرعت الخطى شيئاً فشيئاً ، أنظر للشارع فأحدد نقاط الهروب الأمثل التي تصلح لكل متر أمشيه ، رأيت عجوزاً يمشي في الشارع ، فسلّمت عليه كأقرب حفيد له ، ومشيت حذائه ، ثم تركته لبطء مشيه ، رأيت شباباً متجمعين على "الدوار" يتبادلون فيما بينهم الأخبار ، و لم أنجح بعدُ في التقاط نبأ منهم ، حتى صاح ولد من على شرفة منزله :

- جاء "الجيب" .. اهربووووا ؟

انطلقت بالشارع وجريت مع من جرى ، دخلت داراً لا أعرف سكانها ، استقبلونا بحفاوة ، وكنا نلهث ، والعرق يتصبب من كل موضع في جسمنا ، ونحن منهكون ، ومر الجيب الصهيوني من أمام بيت مستقبلِينا ، والجنود يصرخون بمكبرات الصوت : "ممنوع التجول ، التجول ممنوع ، ومن سيخالف القانون فستبكي عليه أمه " ، وكانت لكلمة "أمه" صدى مخيفاً مرعباً لا أزال أسمعه يتردد في أذناي حال تذكري المشهد ، طلبنا الماء من أهل البيت ، فأتت به عجوز تحمله ، قالت :

- يا ابني ، اليوم ممنوع تجول ، ألا تعلم ؟

- قلت لها : أعلم يا جدة ، ولكن عندي دوام مدرسي ، والأستاذ جاء لبيتنا طالباً مني أن أعود للدوام رغم حظر التجوال ، وذلك لكثرة الأيام التي يفرض فيها اليهود منع التجول .

دعيت لي الجدة بالتوفيق ، وأذنت لي بإكمال المشوار بعد أن تأكدت من خلو الشارع من الجنود والجيبات الصهاينة ، مشيتُ ومشيت ، وكانت كل خطوة ثقيلة ثقل آلام شعبنا آنذاك ، أحدث نفسي : الحمد لله أن حقيبتي ليست ملآى بالكتب ، وإلا لكنت "سلحفاة" في الجري ، ولتجمدت رجلاي ، ولتم القبض عليّ ، وضربي ... المهم أني وصلت للمدرسة بسلام ، ولا تسألوني في أي وقت دخلتها ، كان من حضر من الطلاب هم في غالبيتهم جيران للمدرسة وقد أخذوا حصة "دردشة" سياسية عامة ، استعرضوا فيها فيلم إثارة ، عبر شاشة نوافذ الغرفة الصفية ، ينتقلون من واحدة لأخرى ، هذا جيب ، وهذا جندي ، هذه قنبلة صوتية ، وآخر يصيح : من معه بصل لنشمه فقد ألقوا قنبلة غاز ... كانت مدرستنا قريبة من بؤرة مواجهات ساخنة ، دخل مدير المدرسة صفنا الذي لا يتجاوز عدد من فيه من شعبتنا وباقي شعب مستوانا العشرة طلاب ، الجميل أنه لم يسألني عن سبب تأخري ، بل سألني أنا وباقي الطلاب عن سبب مجيئنا ، وقال إنه لم يكن ليتوقع أن الأمور ستكون حادة وخطرة هكذا ، وطلب منا أن نبتعد قدر الإمكان عن النوافذ والشبابيك .

جلسنا على مقاعد الدراسة ، ولم يجد أستاذ الرياضيات في ذلك الجو المرعب درساً يتلائم مع هذه الأجواء سوى "درس الضرب" ، فأعطانا طريقة جميلة لضرب جدول الـ11 إلى 19 ، وكان صوت الرصاص المطاطي بين فترة وأخرى يقطع درسه المشوق ، ثم يسرع الأستاذ بدوره نحو النافذة ليستطلع ماذا يجري ؟! .

كان بجانبي على مقعد الدراسة صديقي "محمد" الذي يسكن في حارة قريبة من المدرسة ، قال لي بنبرة يبدو عليها الارتباك و الخوف :

- إن كل من حضر اليوم إلى المدرسة فهو شجاع وبطل

-قلت له : ما هي آخر أخبار الحارة ؟

- قال : أخذوا [أي اليهود] صاحبنا محمود بعد اقتحام بيته ، واشتبهوا بأنه كان يرمي الحجارة ، رغم أنه كان يأكل في البيت .

- قلت : وماذا جرى به ؟

- قال : لا تخف ، لحقت أمه بالجيب ، وسلّته من بينهم ، وقالت لهم أنه صغير ، الحمد لله أن الجنود لم يؤذوها .

سكت هنيهة ، و ملامح وجهه تشير إلى أنه يتذكر شيئاً مؤلماً قال :

- الليلة الماضية ، اقتحمت سيارتان عسكريتان حارتنا ، كانوا يلاحقون سيارة "عربية" ، كنت بالصدفة انظر من النافذة ، قطعوا الطريق أمام السيارة ، ثم نزل اليهود ، ضربوا السائق ، فاستنجدت إمرأة معه بنا وبالجيران ، نزلت جدتي وجدي وأمي وأبي وأكابر حارتنا لمحاولة تخليصهم من اليهود ، الحمد لله أن أبي كان يتكلم اللغة العبرية ، حيث أن السيارة الفلسطينية ، كانت متوجهة إلى المستشفى لعلاج طفل صغير من آثار استنشاق الغاز .

-قلت له : إذن كانت ليلتك "ملونة" ، وما الذي أتى بك اليوم ؟!.

وما كدت أكمل السؤال ، حتى دخل المدير صفنا مرة أخرى مصروعاً ، قال والخوف بادٍ على وجهه :

- الكابتن العسكري طلب مني إخلاء المدرسة ، وإلا ... ، "كل طلاب حارة واحدة يمشو مع بعض" .

خرجنا من المدرسة ، وكان الوضع يشبه ما يوصف اليوم بهدوء ما قبل العاصفة ، دخلت حارتي مزهواً بالانتصار ، أنا شجاع ، أنا بطل ، وصلت للمدرسة رغم الخوف وممنوع التجول ، لم يمسكني أحد ، رأتني أمي ، فتحت النافذة ، وصاحت :

- بسرعة يا حبيبي ، فيه جيب جاي من بعيد .

دخلت البيت ، أغلقت الباب ثلاث "طقات" ، حضنتني أمي مهنئتني بالسلامة :

- "أنت أقوى من إسرائيل ، شايف ... هدول ضعاف مش لازم نخاف منهم" .

اليوم التالي ، استيقظت فجراً على صوت الجيبات العسكرية التي "تولول" في الشوارع الخالية :

- "إلى أهالي مدينة الخليل ، ممنوع التجول ، التجول ممنوع ، ومن سيخالف القانون سيعاقب بشدة" .

حضّرت برنامج دروسي لذلك اليوم ، لبست زييَ المدرسي ، تناولت فطوري ، ومضيت أقاوم لأتعلم ، وأتعلم لأقاوم