صلاة الفجر... عندما تكون محاولة للأسر

حواديت ضفاوية 3:

حاتم المحتسب - الضفة الغربية

[email protected]

رنّ الهاتف ينبهني لوقت الفجر ...

- "أنا قلبي قلب فارس ، ومش خايف ، أنا حاسس أنا شايف الحق في قلبي ، وأهو رب الكون جمبي هو الملك هو الحارس ، قلبي شبه سيفي ، درعي عشر آيات ، لون خيري من طيفي ، ثابت حتى الممات ، دوّر كده جواك حتلاقي فيك مني ، حتلاقي في جواك فارس ومستني ، يرمح على خيله ، ويقيد ضلام ليله ، نور ربه ده دليله ، لو مرة ضل وتاه ..." هذه كلمات مخضبة بالأحاسيس والمشاعر ، التي وجب أن يملأ شذاها رئتا الانسان فضلاً عن قلبه ، وهو متوجه قِبَل المسجد لأداء صلاة الفجر في جماعة بالضفة الغربية المحتلة ، اخترت هذه المقطوعة دوناً عن غيرها لكي تكون شعاري الذي يدفعني إلى مجافاة دثاري ليل الشتاء البارد ، ولكي تكون زاداً على الطريق لمواجهة محتملة مع دجاجلة المحتلين ! .

في خضم ذلك الجو ، تبرز النفس المتعبة ، التي تقاتل من أجل الحصول على لقمة "راحة" تتسولها من لحظات الخمول وضعف الإرادة :

- الوقت مبكر جداً .. أطفئ المنبه ، وأعد توليف الوقت ، أمامنا للشروق ساعات !.

- لا ، يا حاتم ... ألا تسمع الكلمات ... قم يا فارس ، هيا إلى رضوان الله ! .

ويتدخل الشيطان متسربلاً لباس الوعّاظ :

- الوقت مبكر ، والجو بارد في الخارج ، أضف إلى ذلك أنك متعب ، وغداً يومك شاق .

ما هذا الشيطان "المثقف" ! ، يجب أن نقوم لكي نكسب الجولة :

- بقلك لا تقوم يا مسكين ، الجيبات العسكرية تجول في الشوارع ، وأكيد أنك سـ...

اخرس يا "بعلزبول" ، قمنا وعلى بركة الله ، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ، وبسرعة توجهت لبيت الخلاء ، فتوضأت ، ولبست المعطف الثقيل ، وانتبهت إلى أن الصلاة بدأت أو كادت ! ، فتحت باب المنزل ثم حثثت الخطى نحو المسجد .

لم أكن على استعداد لملاحظة شيء في الشارع ، لكني اقنتصت صوراً سريعة ، بريشة سُكون الفجر الآسر ، هواء عليل يدخل إلى الروح ، تحس بطعمه وشكله ولونه ! ، وكأنه يخاطبك ، يختلف عن كل نسمات الدنيا ، خذ نفَسَاً عميقاً صباح فجر بارد حتى تعرف عن أي هواء أتحدث ! . كانت بعض الشوراع مضيئة ، وأخرى معتمة ، الدكاكين مغلقة ، وكأنها وصدت أبوابها لتحصل قدر من الدفء والخصوصية! ، أما الشارع الذي شاركني بالمشي فيه كلاب تعوي وقطط تتسول من أكياس القمامة ، فقد كان خالياً من الإنس إلا مني ، دخلت المسجد ، فكبّرت للصلاة ، وعندما سجدنا في المرة الأولى ، إذ بذاك الصوت الذي نعرفه جيداً يغزو الأجواء ، إنه صوت محرك "موتور" الجيبات العسكرية الصهيونية ، ساد في المسجد سكون الصلاة ، و كان كل من في المصلى يشغل باله في معادلة معطياتها الصوت فقط لحساب عدد السيارات العسكرية حولنا ؟ وهل اليهود قادمون للمسجد أم عابري سبيل حتى تصلوا ؟! ، كنا في بحر متلاطم من الأسئلة التي يرسلها الدماغ بشكل لا إرادي ، ولا تستطيع أن توقفها إلا بغياب ذلك الصوت .

أكملنا صلاة "الخوف بالذي تدرون ، سلّمنا عن اليمين وعن الشمال ، نظر بعضنا في بعض

- يا فتّاح يا عليم ، ما لهم هالقرود على الصبح ؟!

-ابصر شو في ... 

- كل الشباب معاهم الهويات يا إخوانا 

- أنا فش معي الهوية ، الله يسترنا 

- ما تخاف ، اتصل على ااهلك بيبعتوها.

ثم جاء من نهاية المسجد المؤذن أبو محمود ، كان منتقعاً بالصفار ، وهو حديث عهد بالمسجد فقد تم تعيينه قبل شهرين فقط ، قال والخوف بائن في قسمات وجهه

- هناك ثلاثة جيبات صهيونية ، كلها تقف أمام باب المسجد ، وهناك ثلاثة جنود على الباب ، قالوا لي أنه يجب أن يخرج من في المسجد حتى تتم فحص البطاقات الشخصية ، "وكل واحد ينفد بريشو" !.

كان فينا بعض العجائز ، الذي لم يهتموا كثيراً لوجود الجيبات على لسان باب المسجد ، ولم يهتموا حتى لوضع الشباب الذي بدا على أغلبهم آثار الانتعاش والنشاط التي تضخها دفعة "الأدرينالين" في أجسادهم التي كانت نائمة تمشي على الأرض قبل عدة دقائق فقط ! ، قطع التهامس بيننا أحد المعتقلين السابقين الذي يكنّى بأبي جمال ، الذي ارتجل خطة للتعامل مع هذه "الأزمة" : 

- يا إخوة ، نخرج كلنا مرة واحدة ...

وجّه كلامه للختايرة وقال

- ممنوع أحد يخرج لوحده ، لن ينصرف أحد إلا عندما نتأكد من سلامة الجميع إن شاء الله ، ولا تخافوا يا إخوة فأنتم في حماية الله ، ألم تسمعوا قول رسولكم صلى الله عليه وسلم : " من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله " ..

لأول مرة أتعرف على هذا الرجل ، ولقد استطاع أن يعبئ فينا الثقة واللامبالاة بما يجري ، ونحن في أمسّ الحاجة إلى هكذا شعور ساعتئذ ، أنهى أبو جمال خطابه الذي لم يستمر طويلاً ، توجه إلى باب المسجد ، وكلنا لاحق به ، نتسابق على من سيخرج من الباب أولاً ، فتح أبو جمال الباب وكنا عن يمينه وشماله ، وكان الجنود يركزون شعاع "الليزر" لأسلحتهم علينا ، صاح فيهم

- خوف يقطع ركبكوا ...

ثم طلب الجنود منا أن نخرج واحداً تلو الآخر ، كان أبو جمال أولنا ، أعطاهم البطاقة الشخصية ، وكنا نسمع جداله مع الضابط الصهيوني المسؤول عن الوحدة المقتحمة ، كان يوبخهم ويوبخ الضابط المسؤول : " دولتكم إلى زوال ، أنتم خائفون ، ماذا تريدون ؟ ، هل صلاة الفجر في جماعة تهمة ؟ ....." كان الصوت العالي يعلو ويخفت حسب الموضوع المناقَش به ، وكانت آخر الجمل التي سمعناها لأبي جمال : " أنتم مجرمون إرهابيون ، قطّاع طرق ، قل لي دولة تحترم نفسها تلاحق المصلين ، هذا موجود عندكم وفي دولتكم "الآخر طراز"! " ، ثم أتبع جملته بضحكه ساخرة ، جعلت الضابط الصهيوني يخرس ويصمت صمت القبور ، ثم تم وضعه في الجيب العسكري بعد أن تمّ إغماء عينه ، وربط يديه من خلفه ، وقال : " وعجلت إليك رب لترضى ، وعجلت إليك رب لترضى ، وسلّم علينا بكفّ العين من بعيد " ، ثم تم وضعه في جيب عسكري رابع جاء لهذه المهمة ، وانطلق إلى جهة غير معلومة ! ، فيما استمرت السيارات العسكرية الأخرى بمهمتها !.

إذن عرفنا من المستهدف ، إنه أبو جمال ، كان القوم يسلمون بطاقاتهم الشخصية ، ثم يتم فحصها ، والتأكد من هوية صاحبها ، ثم يسوقك جنديان إلى الضابط المسؤول الذي يبعد عن باب المسجد مسافة لا تزيد عن العشرين متراً ، قال لي

- صباح الخير يا حاتم ....

- صباح الخير هذا جواب اللسان أما جواب الدماغ :" ومن وين بدو يجي الخير بوجودكو

- كيف الجامعة معك ؟ 

- الحمد لله 

- شو بدكش تتوب من الشغل مع الكتلة 

- بعد الحَبسة تبنى ...

- من وين بتعرف ابو جمال ؟

- قصدك الزلمة يلي جايين من شانو ؟

- اه ، مين غيرو 

- والله أول مرة بشوفوا بالمسجد 

كنت أتصّنع الامبالاة ، وشدة النعاس ، قام الضابط بفحص الهوية ، ثم أعطانيها ، وقال لي : "يوم سعيد"! ، فرددت عليه بشكل لا إرادي : " يوم مبين من أوله!" .

جلست قريباً من باقي الشباب ، وكان معي شباب آخرون ، حتى نتأكد من سلامة الكل ، ونمد الروح المعنوية للإخوة الباقين ، و أزعجنا أن العجائز "وكعادتهم" لم ينتظروا أحداً ، ولم يتم حتى توقيفهم ، ولم يعبّرنا أحد منهم سوى جار المسجد أبو خليل التميمي ، الذي صنع لنا شاياً صباحياً دافئاً ، وكانت زوجته الحاجة "عزيزة" ، تدعو على الجنود الصهاينة من نافذة بيتها بين الحين والآخر بصوت عال جداً ، وبدعوات مضحكة أحياناً أخرى ، وتحيينا وتسأل زوجها إن كان الموقف يستدعي نزولها إلى الشارع للدفاع عن الشباب! ، أبو جمال الآن في سجن النقب وتم الحُكم عليه لمدة عشرة أشهر ، وبهذه المدة يكون مجموع ما قضاه في سجون العدو الصهيوني سبعة سنوات ونيّف .