نتوء في قلب ساقطة
نتوء في قلب ساقطة
رؤى صبري
جاء الصباح الباكر يحمل معه عناء يوم جديد ألقيت نظرة على المنبه متأملا الحصول على بضع دقائق إضافية من النوم لكن كان الوقت قد أزف ، خاصة مع ازدحام الشوارع في هذه الساعة ، قمت وارتديت ثيابي وأنا أجحد زوجتي بنظرة حاسدة على النوم العميق الذي كانت تنعم به ، خرجت و كلي أمل أن لا تكون العيادة مزدحمة ، خاصة انه يوم الخميس الذي يقل فيه المراجعون ، دلفت للعيادة وبدا لي أن أمنيتي تحققت إذ لا مرضى ينتظرون ، أخذت الجريدة ودخلت للمكتب بعد أن طلبت كوب القهوة المعتاد وأنا مازلت أدعو أن يستمر اليوم على حاله وأن تنقضي الساعات سريعا كي أعود للمنزل وأغط في النوم العميق ، لكن يبدو أن الأقدار قررت أن تعطيني مرادي بطريقتها الخاصة فما هي إلا بضعة دقائق حتى جاءت الممرضة لتعلمني بوصول أول مريضة ، أطلقت أفا وطوحت بالجريدة جانبا وأنا أنتظر دخولها ، خلعت عويناتي أنظفها استعدادا للجلسة فهي لا بد وأنها مراهقة تشكو البثور المتناثرة في وجهها ، أو أم تشكو إهمال أولادها لها أو غيرها من المشاكل المعتادة رفعت رأسي إذ سمعت صوت خطوات المريضة قادمة لأجد شيئا عكس توقعاتي تماما فهي امرأة في منتصف العشرينات جمالها بتار كالسيف قوامها ممشوق يميل للقامة الرياضية وبالرغم من ذلك لم يخفي كل مفاتنها كأنثى, متوسطة الطول بيضاء البشرة, ملامحها دقيقة كأنما رسمت بريشة رسام خاصة مع الابتسامة الواثقة التى تعلو وجهها هنا استوعبت أني أطلت النظر فيها ارتبكت قليلا وأشرت لها بالجلوس وسألتها بصوت هادئ :
كيف حالك؟
أجابت بدون اهتمام:
بخير.
عدت أقول:
وما هي مشكلتك؟
قالت:
أريد منك أن تسمع وتدع عنك النصائح والتوجيهات ، فقط أريدك أن تصغي.
وفي الواقع كنت متشوقا لكي أسمع ما تحمله في جعبتها فلقد حدثني قلبي أن ورائها حكاية مشوقة تستحق أن تروى
قلت لها:
كلي آذان صاغية.
فتحت حقيبتها وأخرجت منها علبة سجائر أنيقة أشعلت منها سيجارة وبدأت الحكاية : لم يكن الروتين شئ يسيطر على حياتي فأنا أستيقظ كل يوم ولا أعرف ماذا ينتظرني وما إذا كان يوما سيئا أو جيدا بالنسبة لي هو مجرد يوم آخر يمر في حياتي كما يمر في حياة كل الناس ،ولم تكن قصتي مختلفة كثيرا مجرد أسرة مفككة نشأ في كنفها أبناء وبنات فاشلين في الحياة الدراسية والعملية ولم أحتاج لكي أكون ذكية حتى أعرف مستقبلي فهو واضح كالشمس والجمال الذي وهبت كان بمثابة تعويض عن العائلة التى لم أحظ بها ولم أرى في ذلك عيبا ، فأنا امرأة عاملة ، وهناك فئات من الناس تحتاجني ، حتى لو كنت في نظر الآخرين ساقطة ؟ فمنذ متى يهم كلام الناس؟ أليس هذا العمل أفضل من التسول وسؤال الآخرين؟ثم من قال أني لا أعمل بجد فأنا أعمل من غروب الشمس إلى شروقها والمال الذي يأتيني من هذا العمل أستحقه بجدارة ,الغريب أني لم اشعر يوما بالعار أو الخجل من نفسي بالعكس كنت فخورة بما أفعله على الأقل وجدت طريقة أعتمد بها على نفسي بالرغم من معطياتي القليلة ولذلك عشت حياة لا بأس بها ولكن من قال إن الحياة تمن علينا بالراحة والطمأنينة الدائمة؟
وهنا كانت السيجارة الأولى قد صارت رمادا فما كان منها إلا أن أخرجت واحدة أخرى وأرادت أن تشعلها فما كان مني إلا أن اسبقها لأشعل السيجارة في فمها وكأني بذلك كنت أريدها أن لا تنشغل بأي شئ آخر عن سرد حكايتها وبعد أخذه لنفس عميق منها اعتدلت في جلستها وقالت :
وأنا ياسيدي أريد أن أصدقك القول في حكاياتي هذه لعلي أجد لديك ما يعيد لي توازني فالقصة بدأت في ليلة عمل بالنسبة لي حيث كان مجرد زبون لا أكثر قدمت له خدمة وأخذت ثمنها لكني بالنسبة له كنت أكثر من ذلك قال إني لمست وتر في قلبه,وتر أنشد بموسيقى في روحه, راح ظهوره يتكرر في الأماكن التى أتردد عليها ولم يكن مطلب ساعة أو سواها بل كان طلب كبير إنه يطلب العمر كله, يطلب الزواج بدت لي فكرة ساخرة في البداية ولكن إصراره نفى أي شكوك سائلته حينها:
وهل سأترك العمل؟
قال ببساطة:بل تتقاعدين وتحصلين على راتبك حين تتزوجيني.
قتلتني بساطته فلطالما وجد الرجال في حياتي لكنهم كانوا مصدر رزق وليس مصدر عاطفة شعور جميل دغدغ عاطفتي وأشعرني بمشاعر لم أكن أؤمن بأنها موجودة خاصة أنني لم أعرف الحب حتى مع عائلتي كان لي أول رجل وأول صدام مع العاطفة ,تم الزواج فكان كالحلم لم أشعر بأنه حقيقة كل شئ مثالي أكثر من اللازم كل شئ مخلوق بدقة كأنه مصنوع من يد نحات ، العرس الكبير,الطعام الفاخر, الفيلا الأنيقة والخدم الذين يطيعون قبل أن يأمرون, وراحت تمضي الأيام كما كانت تمضي دوما ولكن هذه المرة بصورة مختلفة, في الماضي كانت مجرد أيام عادية أما الآن فهي أيام مختلفة أصبح الكلام فيها محسوب والنظرات لها عدد معين ومن الأفضل أن لا أطرح رأيي فمن الواضح أني لم أرى في الحياة إلا تجربة الأسرّة المختلفة على حد قوله! وقبل أن يأتي الضيوف كان يعيد على مسامعي حصة التاريخ المتعلقة بي ، حتى لا يحصل تضارب في الأقوال ويبدأ الناس في التساؤل,في البداية التمست له العذر لكن ألا يعلم كم يجرح ذلك شعوري؟ثم ألم يكن على علم بما أنا عليه؟فأنا لم أخدعه ولم أدع أني أنحدر من إحدى العائلات الارستقراطية ، لقد قبلني كما أنا ومن المفترض أن يفخر بي كما أنا أو حتى كان من الأفضل أن لا يتزوجني من الأساس، فالزواج رباط مقدس يجمع الزوجين في السراء والضراء ثم ما فائدة زوجة تجلب العار؟,المثير للسخرية أني كنت أرى الحسد في عيون زوجات الآخرين،فزوجي يعتبر بنك متحرك إن جاز التعبير ولم أكن أملك إلا الابتسامة الساخرة لحسدهن وغباؤهن فهل تزوجته لأني أحتاج للمال أو للسكن؟بماذا أسعدتني أمواله وأنا أراقب الضحكة والابتسامة والنظرة وأتعامل بحذر كأني في جهاز مخابرات عالمي؟! ولم أجد غير السجائر تسلي وحدتي وتنفث همي ، وكم كنت أتمني لو أعمى دخانها عينيي حتى لا أرى جهنم التى أقحمت فيها نفسي أملاً في الحصول على حياة وردية,خبا بريق عينيي وأصبح الغد أكثر سواداً من الأمس ، وبدأت قوة احتمالي تقل شيئا فشيئاً ، وذابت الحبال التى ربطت بيني وبينه وسط الحياة التى كان الكتمان أساسها والصمت هو مفتاح العيش فيها.
وفي أحد الأيام قرر إقامة حفلا بمناسبة افتتاحه شركة جديدة ,كان الحفل صاخبا صخب يصم الآذان ، لكن كان صوت أفكاري هو الطاغي على أي صوت آخر فالحيرة تقتلني والتفكير أتعبني , التفت بجانبي ووجدت أحد المدعوين وجه جديد غير معروف سئلت وأنا أنفث دخان سيجارتي:
جديد؟؟!
نظر إلي متسائلا بمعنى أنه لا يفهم فوضحت قائلة:
أنت صديق جديد؟
ظهرت على وجهه علامات الفهم وهو يقول:
اه لا ولكني كنت مسافرا لفترة.
هززت رأسي علامة على عدم الاكتراث فعاد يقول:
أنت زوجة أستاذ أنور.
هززت رأسي بلا مبالاة فعاد يقول:
وهل كان التدريس في الجامعة تجربة تستحق العناء؟
فجرت هذه العبارة براكين في داخلي وجعلت مأساة الشهور الماضية تمر كالبرق أمام عيني التفت له بكامل جسدي وقلت:
سيدي هل تعرف ماذا كنت أعمل؟
قال ببراءة:
معيدة في كلية الآداب.
قلت له:
سيدي أنا ساقطة ولم أعمل في حياتي غير هذا.
ترك الذهول أثره على وجهه قمت وأنا أطلق ضحكة ماجنة كالتي كنت أطلقها في الأيام الخوالي ولم أنس أن انظر للجميع نظرة احتقار وغادرت القصر العامر بالأكاذيب والخداع ولم أنس أن اترك تلك الروح المزيفة ورائي.
وهذه كانت حكايتي يا دكتور .
ظللت صامتا ربما من اثر الصدمة ، لم أتوقع منها صراحة إلى هذا الحد كانت جريئة بلا حد لم يجرحها ما هي عليه ، ولكن آلمها كثيراً أن الرجل الوحيد الذي أحبت لم يكن جديرا بها لقد ترك نتوءاً في قلبها ، لم تستطع الظروف العائلية أو المهنة التي تمارسها أن تجرحها بهذا القدر.
وهنا بدا واضحاً بعد أن انتهت من سرد حكايتها اختفاء الابتسامة الواثقة من على شفيتها وحلت محلها ابتسامة امتزجت فيها المرارة بالألم ونظرة حزينة هنا كسرت حاجز الصمت وقلت:
لا أعرف ماذا أقول.
ردت وهي تحمل حقيبتها قائلة:
لا تقل شيئا.
تركتني أسبح في بحيرة ذهولي من سخرية القدر أفقت من خواطري على صوت الممرضة وهي تخبرني بموعد إغلاق العيادة حقا مضى الوقت سريعا كما تمنيت ولكن بطريقة لم أتخيلها.
قاصة سعودية